جديد المدونة

جديد الرسائل

الأحد، 28 يناير 2024

(42) من نصائح والدي رحمه الله

 

                                      التحفيز في طلب العلم

كانت مجالس والدي رَحِمَهُ الله مليئة بالنصائح والتحفيزات في طلب العلم، من ذلك:

-قصة سبب طلب ابن حزم رحمه الله للعلم، وهذا نصها:

-في «سير أعلام النبلاء» (18/199) ترجمة ابن حزم من طريق وَالِد أَبِي بَكْرٍ ابنِ العَرَبِي، أَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ ابنُ حَزْمٍ، أَن سَبَبَ تَعَلُّمه الفِقْه أَنَّهُ شَهِدَ جنَازَة، فَدَخَلَ المَسْجَدَ، فَجَلَسَ، وَلَمْ يَركع، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: قُمْ فَصلِّ تحيَّة المَسْجَد، وَكَانَ قَدْ بلغَ سِتًّا وَعِشْرِيْنَ سَنَةً. قَالَ: فَقُمْتُ وَركعتُ، فَلَمَّا رَجَعنَا مِنَ الصَّلاةِ عَلَى الجنَازَة، دَخَلْتُ المَسْجَد، فَبَادرتُ بِالرُّكُوْع، فَقِيْلَ لِي: اجْلِسْ اجْلِسْ، لَيْسَ ذَا وَقتَ صَلاة([1])- وَكَانَ بَعْد العَصْر-، قَالَ: فَانْصَرَفت وَقَدْ حَزِنْتُ، وَقُلْتُ لِلأسْتَاذ الَّذِي رَبَّانِي: دُلنِي عَلَى دَار الفَقِيْه أَبِي عَبْدِاللهِ ابنِ دحُّوْنَ. قَالَ: فَقصدتُه، وَأَعْلَمتُه بِمَا جرَى، فَدلَّنِي عَلَى «مُوَطَّأ مَالِكٍ-، فَبدَأَتُ بِهِ عَلَيْهِ، وَتتَابعت قِرَاءتِي عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَة أَعْوَام، وَبدَأتُ بِالمنَاظرَة.

- وذكر لنا والدي رَحِمَهُ الله السبب في طلب سيبويه لعلم النحو.

وهذا نصها: قال ابن هشام في «مغني اللبيب»(387): وَهَذِه الْمَسْأَلَة كَانَت سَبَب قِرَاءَة سِيبَوَيْهٍ النَّحْو؛ وَذَلِكَ أَنه جَاءَ إِلَى حَمَّاد بن سَلمَة لكتابة الحَدِيث فاستملى مِنْهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «لَيْسَ من أَصْحَابِي أحد إِلَّا وَلَو شِئْت لأخذت عَلَيْهِ لَيْسَ أَبَا الدَّرْدَاء».

 فَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: لَيْسَ أَبُو الدَّرْدَاء، فصاح بِهِ حَمَّاد لحنت يَا سِيبَوَيْهٍ؛ إِنَّمَا هَذَا اسْتثِنَاء، فَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَالله لأطلبن علمًا لَا يلحنني مَعَه أحد، ثمَّ مضى وَلزِمَ الْخَلِيل وَغَيره([2]).

-في «تاريخ دمشق» لابن عساكر (32/447) ترجمة عبدالله بن المبارك: قدم هارون الرشيد أمير المؤمنين الرقة، فانجفل الناس خلف عبداللَّه بن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب، فلما رأت الناس قَالت: ما هذا؟ قَالُوا: عالم من أهل خراسان قدم الرقة يقَالُ له: عبداللَّه بن المبارك، فقَالت: هذا واللَّه الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَطٍ وأعوان.

-أخرج أبوالقاسم البغوي رَحِمَهُ الله في «زوائد الجعديات» (753) من طريق سفيان بن عيينة قال: رأيت الأعمش لبس فروًا مقلوبًا، وبتًّا تسيل خيوطه على رجليه، ثمَّ قال: أرأيتم لولا أنِّي تعلَّمت العلم من كان يأتيني، لو كنت بقالًا كان يقذرني النَّاس أن يشتروا منِّي.

-سمعت والدي رَحِمَهُ الله يقول: يا أبنائي، لو كان العلمُ يُسْقَى في كأسٍ لأسقيتُكُموه، ولكن لا يُتَحصَّلُ عليه إلا بِحَكِّ الرُّكب على الحَصير.

وقد قال يحيى بنُ أبي كثير لولدِه عبدِالله: لَا يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ.

والأثر أخرجهُ مسلمٌ في كتابِ الصلاةِ([3])، وقد أَشكَلَ ذِكْرُهُ في هذا الموضِعِ، ولكنَّ الإمامَ مسلِمًا أخرج طُرُقًا كثيرة، ثُمَّ أخرج أثرَ يحيى؛ ليبيِّن أنَّه لا بُدَّ من الصَّبرِ على العِلم.



([1]) هذا على القول بأن تحية المسجد لا تصلَّى في وقت كراهة، والصحيح أنها تُصلَّى؛ فهي من ذوات الأسباب.

([2]) وتنظر القصة في «إكمال تهذيب الكمال»(4/143)، و« إنباه الرواة على أنباه النحاة »(2/350)، و « بغية الوعاة» (1/548).

([3]) قلت: الأثرُ في «صحيحِ مسلم» (612) في أحاديثِ المواقيت.

وقد ذكر النووي رحمه الله في «شرحِ صحيحِ مسلم» نحوَ ما ذكرهُ والدي رحمه الله، وقال: جَرَتْ عَادَةُ الْفُضَلَاءِ بِالسُّؤَالِ عَنْ إِدْخَالِ مُسْلِمٍ هَذِهِ الْحِكَايَةَ عَنْ يَحْيَى، مَعَ أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ إِلَّا أَحَادِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْضَةً، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِأَحَادِيثِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، فَكَيْفَ أَدْخَلَهَا بَيْنَهَا؟!

وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ قَالَ: سَبَبُهُ أَنَّ مُسْلِمًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَعْجَبَهُ حُسْنُ سِيَاقِ هَذِهِ الطُّرُقِ الَّتِي ذكرها لحديث عبدالله بن عمرو، وَكَثْرَةِ فَوَائِدِهَا، وَتَلْخِيص مَقَاصِدِهَا، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْفَوَائِدِ فِي الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا شَارَكَهُ فِيهَا. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَ مَنْ رَغِبَ فِي تَحْصِيلِ الرُّتْبَةِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا مَعْرِفَةَ مِثْلَ هَذَا، فَقَالَ: طَرِيقهُ أَنْ يُكْثِرَ اشْتِغَالَهُ وَإِتْعَابَهُ جِسْمَهُ فِي الِاعْتِنَاءِ بِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ، هَذَا شَرْحُ مَا حَكَاهُ الْقَاضِي.