جديد المدونة

جديد الرسائل

الثلاثاء، 20 سبتمبر 2022

(9) اختصار دروس الأمثال في القرآن

 

قَوْله تَعَالَى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) ﴾ [النحل: 75].

﴿ عَبْدًا مَمْلُوكًا﴾ عبدًا: بدل من مثل، ومملوكًا: صفة لعبد، وأتى بلفظ مملوك؛ لأن العبد يدخل فيه الحر.

﴿ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾ وصف للعبد؛ لأن المملوك قد يكون له تصرف في المال إذا أذن له سيده بالتصرف، وهكذا إذا كان مكاتَبًا، وهو الذي يعمل؛ لتخليص نفسه من الرِّقِّ، فهذان وصفان لهذا العبد: أنه مملوك، وأنه لا يقدر على شيء.

والمراد ﴿ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾ كما قال أبو حيان في «البحر المحيط»(6/569): أي: عَلَى شَيْءٍ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ حَرَكَاتِهِ: كَالْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ، وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالنَّوْمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

﴿ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا﴾ وهذا الحُر.

﴿ رِزْقًا حَسَنًا ﴾ قال الشوكاني في «فتح القدير»(3/216): والمراد بكون الرِّزْقِ حَسَنًا أَنَّهُ مِمَّا يَحْسُنُ فِي عُيُونِ النَّاسِ؛ لِكَوْنِهِ رِزْقًا كَثِيرًا، مُشْتَمِلًا عَلَى أَشْيَاءَ مُسْتَحْسَنَةٍ نَفِيسَةٍ تَرُوقُ النَّاظِرِينَ إِلَيْهَا، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ لِتَرْتِيبِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الرِّزْقِ، أَيْ: يُنْفِقُ مِنْهُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَيَصْرِفُ مِنْهُ إِلَى أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ.

﴿ فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا﴾ قال الشوكاني في «فتح القدير»(3/217): وَانْتِصَابُ سِرًّا وَجَهْرًا عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يُنْفِقُ مِنْهُ فِي حَالِ السِّرِّ وَحَالِ الْجَهْرِ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ عُمُومِ الْإِنْفَاقِ لِلْأَوْقَاتِ.

﴿ هَلْ يَسْتَوُونَ ﴾ لم يقل: هل يستويان؟ لأن المراد الجنسان: جنس العبيد، والأحرار.

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ قال ابن عطية في «المحرر الوجيز»(3/410): شكر على بيان الأمر بهذا المثال وعلى إذعان الخصم له، وهذا كما تقول لمن أذعن لك في حجة وسلم ما تبني أنت عليه قولك: الله أكبر، على هذا يكون كذا وكذا، فلما قال هنا: ﴿هَلْ يَسْتَوُونَ فكأن الخصم قال له: لا، فقال: الحمد لله، ظهرت الحجة. اهـ.

 لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يحاجهم بحجة عقلية، هل يستوي عبد مملوك لا يقدر على شيء وحر عنده مال كثير ينفق منه سرًّا وجهرًا؟ سيقول: لا؛ فيكون قد خُصِمَ في صرفه العبادة للأصنام؛ لهذا الله عَزَّ وَجَل يقول: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

وتوضيح المَثَل في هذه الآية: أنه ضرب مثل للمعبود الحق والمعبود الباطل، فكما لا يستوي عندكم عبد عاجز فقير لا يقدر على شيء وآخر حرٌّ غني يتصرف في ملكه مما رزقه الله وأعطاه، هذا معلوم عند كل عاقل أنهما لا يستويان، وكما لا يستوي هذا عندكم فكيف تشركون بالله سُبحَانَهُ الخالق المالك الرازق الذي ينفق على عبده ليلًا ونهارًا، ﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64]!

وقال ابن عباس: هذا ضرب مثل للمؤمن والكافر.

إذًا في المراد بهذا المثل قولان:

 أحدهما: كيف يسوَّى الوثن العاجز الجماد بالله سُبحَانَهُ الملك المتصرف الذي ينفق على خلقه ليلًا ونهارًا؟!

 والثاني: أن المراد مثل المؤمن والكافر، فمعناه: التفرقة بين المؤمن والكافر، فالمؤمن مطيع لله عَزَّ وَجَل وعنده رزق وخير ينفق منه سرًّا وجهرًا، والكافر لا يقدر على شيء؛ لأنه بمنزله العبد المملوك العاجز فلا خير عنده.  

والقول الأول رجحه ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ، والقول الثاني لازمٌ للأول.

من فوائد هذه الآية الكريمة:

ضرب الأمثال في القرآن، وتقدم المراد بهذا المثل.

  ونستفيد التنفير من الشرك، ومحاجة المشركين وإظهار باطلهم وضلالهم.  

     أن العباد كلهم خلق وعبيد لله، وكل نعمة وخير يصل إلى العبد إنما هو من عند الله عَزَّ وَجَل.

    أن المشركين لو علموا عظمة الله لما أشركوا به، ولكن هذا يدل على جهلهم؛ ولهذا قال سبحانه في آخر الآية: ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾.

   وفي الآية نفي العلم عن أكثر المشركين، وأنهم جهال، ولفظ الأكثر يخرج القليل من المشركين، فهم يعلمون أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو الواحد الأحد لا شريك له، لكن إما أن يكون غلب عليهم الهوى وتقليد للآباء والأسلاف، أو استبقاء للملك والسيادة، أو أنه ذكر بلفظ الأكثر؛ لأن منهم من علم الله عَزَّ وَجَل أنه سيؤمن.

     نقص العبد المملوك عن الحر، فهو مسخر لسيده ومالكه.

   في الآية إشارة إلى فضل صدقة السر، وإخفاء الصدقة أدعى للإخلاص، إلا إذا كان فيه مصلحة في الجهر بالصدقة، كتنشيط الناس وتحفيزهم على الصدقة، فالنفوس تنشط إذا رأت من يفعل الخير، وهذا من فوائد الجليس الصالح، الجليس الصالح نعمة من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يعين على الخير ويشجع عليه.