التدرُّج في البِشَارةِ
عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها في حادثة الإفك، الحديث وفيه: قَالَت: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ عَلَى فِرَاشِي وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَرِّئَنِي اللَّهُ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ أَنْ يُنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيًا، وَلَأَنَا أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِالقُرْآنِ فِي أَمْرِي، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ، فَوَاللَّهِ مَا رَامَ مَجْلِسَهُ وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ، حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الجُمَانِ مِنَ العَرَقِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا، أَنْ قَالَ لِي: «يَا عَائِشَةُ احْمَدِي اللَّهَ، فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ» الحديث رواه البخاري (2661)، ومسلم (2770).
ضحك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عظَم البِشارة؛ فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ وصحابته وأم المؤمنين وأبواها –أبو بكر وأم رومان-كانوا في ضيق شديد، والصحابة كانوا يتألم بعضهم لبعض؛ لأنهم كالجسد الواحد، ويتألمون لألم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سُرِّي عن النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ضحك، وقال: «يَا عَائِشَةُ احْمَدِي اللَّهَ، فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ»، وكان في هذا فرج عظيم.
ونستفيد من هذا: أن البشارة القوية ما تكون دفعة واحدة؛ لأنه قد يتأثر المصاب فينقلب الحال إلى أسوء، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يبشرها بالتدرج، بدأ بالضحك ثم بشرها ببراءتها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وهذا من الفرج بعد الشدة، ومن الفرج بعد الضيق، ومن فضائل أم المؤمنين أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنزل براءتها «وَلَأَنَا أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِالقُرْآنِ فِي أَمْرِي، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ».
وقد عدَّ أهل العلم قاذف عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بعد نزول براءتها كافرًا، وهذه عقيدة يعتنقها كثير من الروافض –قاتلهم الله-اتهام عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بما هي منه بريئة.
وهذا معدود في فضائل عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أن الله برأها من فوق سبع سماوات.
ولهذا لما كانت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مغلوبة في الاحتضار ودخل عليها ابن عباس وعدَّد بعض فضائِلِها ذكر من ضمنِها براءتها، كما روى البخاري (4753) من طريق ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: اسْتَأْذَنَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَبْلَ مَوْتِهَا عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ مَغْلُوبَةٌ، قَالَتْ: أَخْشَى أَنْ يُثْنِيَ عَلَيَّ، فَقِيلَ: ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ وُجُوهِ المُسْلِمِينَ، قَالَتْ: ائْذَنُوا لَهُ، فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدِينَكِ؟ قَالَتْ: بِخَيْرٍ إِنِ اتَّقَيْتُ، قَالَ: «فَأَنْتِ بِخَيْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَنْكِحْ بِكْرًا غَيْرَكِ، وَنَزَلَ عُذْرُكِ مِنَ السَّمَاءِ»، وَدَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ خِلاَفَهُ، فَقَالَتْ: دَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَثْنَى عَلَيَّ، وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ نِسْيًا مَنْسِيًّا.