من آدَابِ القِرَاءةِ
◆◇◆◇◆◇
اجْتِنَابُ الضَّحِكِ وَاللَّغَطِ وَالْحَديثِ فِي خِلَالِ الْقِرَاءَةِ
من آداب قراءة القرآن أن القارئ يجتنب هذه الصفات حال قراءته، فيجتنب الضحك واللغط والكلام أثناء قراءة القرآن؛ احترامًا لكلام الله عز وجل، ولأنه يناجي ربه، فلا ينبغي أن يقطع القراءة بسبب هذا. قال الله: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) ﴾ [الْأَعْرَافِ].
وهذه الأشياء المذكورة تُؤثِّر على الخشوع، وترفعه من أصله، وتؤثر على التدبر وجمع البال.
واللغط: هو اختلاط الأصوات.
ولا يقطع القراءة؛ لأجل الكلام لغير حاجة؛ لِما تقدم.
و روى أبو عبيد في «فضائل القرآن» (190) عَنِ ابْنِ عَوْنٍ -وهو: عبد الله-، قَالَ: كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ الرَّجُلُ الْقُرْآنَ، إِلَّا كَمَا أُنْزِلَ؛ يَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ، ثُمَّ يَتَكَلَّمَ، ثُمَّ يَقْرَأَ. والأثر صحيح.
وإذا كان هناك حاجة للكلام فلا بأس، مثل: تفسير آية أو بيان سبب نزول، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِذَا قَرَأَ القُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ، فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ يَوْمًا، فَقَرَأَ سُورَةَ البَقَرَةِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَانٍ، قَالَ: تَدْرِي فِيمَ أُنْزِلَتْ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ مَضَى. رواه البخاري (4526). (ثُمَّ مَضَى) أي: مضى في قراءته.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ في «فضائل القرآن» (190) عقب الأثر: إِنَّمَا رَخَّصَ ابْنُ عُمَرَ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَسَبَبِهِ، كَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا يَنْشُرُونَ الْمُصْحَفَ فَيَقْرَءُونَ، وَيُفَسِّرُ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ مِنْ أَحَادِيثِ النَّاسِ وَأَخْبَارِهِمْ كَانَ عِنْدِي مَكْرُوهًا أَنْ تُقْطَعَ الْقِرَاءَةُ بِهِ. اهـ.
وهكذا لو عطس يحمد الله، أو عطس عنده أحد يشمته، أو سمع الأذان يتابعه، أو أُلقي عليه السلام يرد عليه، أو احتاج إلى مخاطبة ولده، أو احتاج إلى شيء وهو يقرأ لا بأس.
◆◇◆◇◆◇
اجتناب الْعَبَث بِالْيَدِ وَغَيْرِهَا
هذا من آداب القارئ اجتناب العبث باليد، وغيرها كالعبث بالرِّجْل، واهتزاز الرأس وتحريكه يمينًا ويسارًا، أو تحريك الجسم واهتزازه أمام وخلف، أو يتمايل بجسمه عند القراءة يمينًا وشمالًا، وهذا ما يسمى بالاهتزاز عند قراءة القرآن، وقد عده بعضهم من التشبه باليهود، وقد حذَّر أبو حيان الأندلسي رَحِمَهُ الله من هذا، قال رحمه الله: وَقَدْ سَرَتْ هَذِهِ النَّزْعَةُ إِلَى أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا رَأَيْتُ بِدِيَارِ مِصْرَ، تَرَاهُمْ في المكتب إذا قرؤوا القرآن يهتزون ويحركون رؤوسهم، وَأَمَّا فِي بِلَادِنَا بِالْأَنْدَلُسِ وَالْغَرْبِ فَلَوْ تَحَرَّكَ صَغِيرٌ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَدَّبَهُ مُؤَدِّبُ الْمَكْتَبِ، وَقَالَ لَهُ: لَا تَتَحَرَّكْ فَتُشْبِهِ الْيَهُودَ فِي الدِّرَاسَةِ. اهـ من «البحر المحيط في تفسير القرآن» (5/218).
وكتبت عن والدي الشيخ مقبل رَحِمَهُ الله في هذه المسألة في الجواب عن سؤال: ما حكم الاهتزاز عند القراءة؟ قال رَحِمَهُ الله: إذا كان الاهتزاز شديدًا فهذا بدعة.
وفي جواب آخر يقول: إن كان اهتزازًا كثيرًا فهو تشبه بالصوفية. اهـ.
فينبغي للآباء والمقرئين أن يتنبَّهُوا لهذا وأن يربوا على ترك هذه الخصلة، نسأل الله أن يصلح الحال.
فعلى القارئ ان يستحضر أنه يناجي ربه ؛ ليكون عونًا له على الالتزام بالآداب والتوقير.
◆◇◆◇◆◇
عدم النَّظَرِ إِلَى مَا يُلْهِي أثناء القراءة
هذا أدب جليل من آداب قارئ القرآن أن يحفظ نظره عمَّا يشغله، حتى يقرأ القرآن بتركيز وتدبر، وليجد حلاوة قراءة القرآن.
ولْنتأمَّلْ في هذا حديث عَبْد اللهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقول: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ» قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: «إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي»، فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [سورة: النساء، آية رقم: 41] رَفَعْتُ رَأْسِي، أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ. أخرجه البخاري (5049)، ومسلم (800)، واللفظ لمسلم.
◆◇◆◇◆◇
حكم النظر إلى الأمرد
الأمرد: الغلام الذي لم تنبت لحيته بعد.
وذكر النووي أن السلف يسمون المردان الأنتان، والجيَف أيضًا. والنَّتْنُ: الرَّائِحَةُ الْكَرِيهَةُ. كما في «مختار الصحاح»(304).
والمراد: اجتناب النظر إلى الأمرد كما يجتنب الشيء المنتن؛ لأنه يؤدي الى القذر والنتن وهو الفاحشة.
حكم النظر إلى الأمرد الحسن، هذا على حالات:
-النظر إلى الأمرد بشهوة، هذا حرام باتفاق العلماء.
-النظر إلى الأمرد بغير شهوة، ولكنه لا يأمن على نفسه من الفتنة. هذا أيضًا حرام؛ لأنه ذريعة للفتنة، وهذا ترجيح شيخ الإسلام.
-النظر إليه بغير شهوة وهو آمن على نفسه من الفتنة به هذا جائز. ونقل ابن القطان رَحِمَهُ الله عدم الخلاف. والواقع إنما هو قول الجمهور. والصحيح عند الشافعية: أنه يحرم النظر إليه.
والصحيح قول الجمهور؛ لأنه لا يوجد ما يمنع من النظر إليه، والحال هذا. وما ورد من الأحاديث في غض البصر عن المردان لا تصح، وقد كان في أبناء الصحابة مردان كثير، منهم: عبد الله بن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فقد توفي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ وقد ناهز الاحتلام، كان ابن ثلاثة عشر عامًا، ولم يأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ بغض البصر عنهم.
-النظر إلى الأمرد: (فِي حَالِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ وَالتَّطْبِيبِ وَالتَّعْلِيمِ وَنَحْوِهَا مِنْ مَوَاضِعِ الحَاجَةِ، فَجَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ، لَكِنْ يَقْتَصِرُ النَّاظِرُ عَلَى قَدْرِ الحَاجَةِ) هذا جائز بالاتفاق إذا لم يكن هناك فتنة.
◆◇◆◇◆◇
تكرار النظر إلى الأمرد
لا ينبغي لأحدٍ إدامة النظر إلى الأمرد أو تكراره من غير حاجة؛ صيانة لقلبه، ولأنه مدعاة للتهمة، قال شيخ الإسلام كما في «مجموع الفتاوى» (21/251): من كرر النظر إلى الأمرد ونحوه أو أدامه، وقال: إني لا أنظر لشهوة: كَذَبَ في ذلك؛ فإنه إذا لم يكن معه داع يحتاج معه إلى النظر، لم يكن النظر إلا لما يحصل في القلب من اللذة بذلك. اهـ.
وقال ابن القيم في «روضة المحبين» (104): وفوائد غض البصر وآفات إرساله أضعاف أضعاف ما ذكرنا، وإنما نبهنا عليه تنبيهًا ولا سيما النظر إلى من لم يجعل الله سبيلًا إلى قضاء الوطر منه شرعًا كالمردان الحسان، فإن إطلاق النظر إليهم السم الناقع، والداء العضال. اهـ.
وكان والدي رحمه الله يتحرى كثيرًا في عدم مخالطة المردان والخلوة بهم، ويحذر من ذلك من باب سد ذرائع الفتن، وكان يقول: إن الشيطان قد يتسلط على بعض طلبة العلم بما لا يقع في بال الآخرين من العوام ونحوهم. ثم ذكر عند أن كان في الشغل هنا في مكة حرسها الله كانوا مجموعة ينامون في غرفة واحدة، ولا يلتفت أحدهم إلى هذا ولا يدخل في أذهانهم شيء. اهـ.
وما يتعلق بالمردان إلا الأراذل من منكوسي الفطرة.
وعلى كلِّ مسلم ومسلمة ترك فضول النظر في هذا وفي غيره، وقد ذكر شيخ الإسلام رَحِمَهُ الله في «مجموع الفتاوى»(21/252-258) ثلاث فوائد في غض البصر:
إحْدَاهَا: حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ وَلَذَّتُهُ الَّتِي هِيَ أَحْلَى وَأَطْيَبُ مِمَا تَرَكَهُ لِلَّهِ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْه.
وَأَمَّا الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ فِي غَضِّ الْبَصَرِ فَهُوَ: أَنَّهُ يُورِثُ نُورَ الْقَلْبِ وَالْفِرَاسَةِ قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ لُوطٍ: ﴿لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾.
وَالْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: قُوَّةُ الْقَلْبِ وَثَبَاتُهُ وَشَجَاعَتُهُ فَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ سُلْطَانَ النُّصْرَةِ مَعَ سُلْطَانِ الْحُجَّةِ. اهـ باختصار.
تحريم النظر إلى المحارم بشهوة
هذا نقل شيخ الإسلام رَحِمَهُ الله الاتفاق على تحريمه، قال شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (21/248): اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لِشَهْوَةِ. اهـ.
وهذا لا يحصل إلا من الفجرة، قال شيخ الإسلام (21/250) عن هذا النوع: فَهَذَا لَا يُقْرَنُ بِهِ شَهْوَةٌ-النظر إلى المحارم-إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مَنْ أَفْجَرِ النَّاسِ، وَمَتَى اقْتَرَنَتْ بِهِ الشَّهْوَةُ حَرُمَ. اهـ.
◆◇◆◇◆◇
حكم قِرَاءةِ الْقُرْآنِ بِالْعَجَمِيَّةِ
لا يجوز قراءة القرآن بالأعجمية في الصلاة، ولا في غيرها. فَإِن قَرَأَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، هَذَا مَذْهَبُ الشافعي وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَدَاوُدَ وَأَبِي بِكْرِ بْنِ المُنْذِرِ.
ولكن في خارج الصلاة ممكن تُذكر لهم الآية ثم تُفسَّر باللغة الأعجمية. فالتفسير باللغة الأعجمية جائز كلامًا وكتابة، وإنما الممنوع قراءة القرآن باللغة الأعجمية؛ لأن القرآن عربيٌّ، قال تعالى: ﴿ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)﴾[الزمر: 28]، وقال: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)﴾[يوسف: 2]، وقال: ﴿ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)﴾[النحل: 103]. والله أعلم.