جديد الرسائل

الثلاثاء، 5 مايو 2020

(8)دروس مختصرة في الصيام من كتاب عمدة الفقه الحنبلي


الدرس الثامن

قال أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد  بن قدامة المقدسي رحمه الله:

وَعَلَى سَائِرِ مَنْ أَفْطَرَ الْقَضَاءُ لا غَيْرُ،إلَّا مَنْ أَفْطَرَ بِجِمَاعٍ فِي الْفَرْجِ فَإِنَّهُ يَقْضِيْ، وَيُعْتِقُ رَقَبَةً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّيْنَ مِسْكِيْنًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَقَطَتْ عَنْهُ.
 فَإِنْ جَامَعَ وَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى جَامَعَ ثَانِيَةً فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ،وَإِنْ كَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ فَكَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ، وَكُلُّ مَنْ لَزِمَهُ الإِمْسَاكُ فِيْ رَمَضَانَ فَجَامَعَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ
.

الشرح

تقدم عند المؤلف  أصحاب الأعذار وبيان حكمهم في الصيام والقضاء،وهم:المريض، والمسافر،والحائض والنفساء،والمرضع، والحامل، والعاجز عن الصوم لكبَرٍ أو مرض.

أما الذين هم ليسوا  من أهل الأعذار فيقول رحمه الله:

وَعَلَى سَائِرِ مَنْ أَفْطَرَ الْقَضَاءُ لا غَيْرُ..

 أي: من أفطر  بغير الأعذار السابقة فعليه القضاء.

(لا غَيْرُ)أي:فحسْب.

ويدخل في هذا الذي يفطر في نهار رمضان عامدًا لغير عذر  أنه يكون عليه القضاء.

والصحيح  أنَّ من أفطر  لغير عذرٍ في رمضان عامدًا بأكلٍ أو شرب أو جماع .. فليس له القضاء.

وهذا هو الذي استفدنا من والدي رحمه الله  فقد سُئِل هل يقضي من أفطر في رمضان عمداً لغير عذر؟

جـ: عليه التوبة الصادقة، ولا يقضي على الصحيح.

وهو قول الشيخ الألباني رحمه الله في «تمام المنة»(425) أن من أفطر عامدًا متعمدًا  لا يشرع له القضاء قال : وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية فقد قال في «الاختيارات»(65):لا يقضي متعمدٌ بلا عذر صوما ولا صلاة ولا تصح منه، وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المجامع في رمضان بالقضاء ضعيف لعدول البخاري ومسلم عنه.

وهو مذهب ابن حزم ورواه عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي هريرة.

غير أن  الشيخ الألباني رحمه الله  يستثني المجامع في نهار رمضان،ويرى أن عليه القضاء لرواية «وصم يوما مكانه».وسيأتي الكلام على هذه الرواية بعد قليل.


قوله:إِلَّا مَنْ أَفْطَرَ بِجِمَاعٍ فِي الْفَرْجِ فَإِنَّهُ يَقْضِيْ، وَيُعْتِقُ رَقَبَةً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَإِطْعَامُ سِتِّيْنَ مِسْكِيْنًا.

هذا يفيد تأكيد تحريم الجماع في نهار رمضان ،وأن الجماع من مفطرات الصيام،ووجوب الكفارة على ذلك.والدليل:  

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: هَلَكْتُ، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «وَمَا أَهْلَكَكَ؟» قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: «هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟» قَالَ: لَا، قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: «تَصَدَّقْ بِهَذَا» قَالَ: أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: «اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ»رواه البخاري(1936)،ومسلم(1111).

قوله:فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَقَطَتْ عَنْهُ.أي تسقط عنه الكفارة  لعجزه،قال تعالى:( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )[ التغابن:18].

وقوله:فَإِنَّهُ يَقْضِيْ

أي:يقضي يومًا مكان اليوم الذي أفسد صيامه،وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.كما في «المغني»(2047)،وهذا جاء فيه رواية عند ابن ماجة(1671)«وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ»،وهذه الزيادة ضعفها عبد الحق الإشبيلي، وذكر أنه أنكر الحفاظ هذه اللفظة من حديث الزهري،كما في«تهذيب السنن»(2387) لابن القيم رَحِمَهُ الله.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ الله كما في «مجموع الفتاوى» (25/225): أَمَّا أَمْرُهُ لِلْمُجَامِعِ بِالْقَضَاءِ فَضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ. وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ أَمْرَهُ بِالْقَضَاءِ وَلَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لَمَا أَهْمَلَهُ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَجِبُ بَيَانُهُ وَلَمَّا لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ لَمْ يَبْقَ مَقْبُولًا مِنْهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَعَمِّدًا لِلْفِطْرِ لَمْ يَكُنْ نَاسِيًا وَلَا جَاهِلًا. اهـ.

 وسمعت والدي رحمه الله يقول: هذه الزيادة ضعيفة.

فالصحيح أن من جامع في نهار رمضان عامدًا أنه لا يقضي،وعليه التوبة إلى الله.وقد ذهب إلى عدم القضاء شيخ الإسلام كما تقدم،وهو محكي في مذهب الشافعي،كما في «فتح الباري» (1936)،وهو قول والدي الشيخ مقبل.

قوله:فَإِنْ جَامَعَ وَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى جَامَعَ ثَانِيَةً فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.

إذا كرر الوطء مرة أخرى وكان في نفس اليوم قبل أن يكفِّر فعليه كفارة واحدة.قال ابن قدامة في «المغني»(2069):إِنْ كَانَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةُ تُجْزِئُهُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.اهـ

وأما إذا كرر الوطء في يومين قبل أن يكفِّر عن اليوم الأول ففيه قولان لأهل العلم:

أحدهما:تجزئه كفارة واحدة،وهذا قول أحمد في رواية عنه والحنفية،قالوا: لِأَنَّهَا جَزَاءٌ عَنْ جِنَايَةٍ تَكَرَّرَ سَبَبُهَا قَبْلَ اسْتِيفَائِهَا، فَيَجِبُ أَنْ تَتَدَاخَلَ كَالْحَدِّ.

الثاني:يلزمه كفارتان،وهذا قول مالك والشافعي وأحمد في رواية عنه ورجحه ابن المنذر،وحجتهم:أن كُلَّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُنْفَرِدَةٌ، فَإِذَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِهِ لَمْ تَتَدَاخَلْ، كَرَمَضَانَيْنِ، وَكَالْحَجَّتَيْنِ.يُنظر «المغني»(2069).

وهذا هو القول الصحيح،لأنه أفسد صيام يومين،فوجب عليه كفارتان. 

وقوله:وَإِنْ كَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ فَكَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ

أي:إذا  كفَّر ثم  عاد إلى الوطء فعليه كفارة أخرى،وهذا على حالين:

 إن كان في  يومٍ واحد  فعليه كفارة أخرى على المذهب الحنبلي.

والصحيح أنه إذا كرر الجماع في يوم واحد فليس عليه إلا كفارةٌ واحدة عن الوطءِ الأول،سواء كان قبل الكفارة أو بعدها،لأنه في المرة الثانية لم يصادف صومًا،إذ قد فسد صومُه.وهذا قول جمهور العلماء مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه.ينظر «المجموع»(6/337)،ورجَّح هذا القول الشيخ ابن عثيمين في «الشرح الممتع»(6/407).

وإن  كفَّر ثم عاود الوطء في يومٍ آخر فَهذا عليه كفارةأخرى،لأن كل يوم فيه عبادة مستقلة،يقول ابن قدامة«المغني»(2070):عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ.اهـ


قوله:وَكُلُّ مَنْ لَزِمَهُ الإِمْسَاكُ فِيْ رَمَضَانَ فَجَامَعَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ.

هذا فيمن كان له عذرٌ شرعي في الإفطار،ثم في أثناء اليوم زال عنه العذر كمسافر وصل هو وزوجته بلدهما ظهرًا،أو مريض شُفي في أثناء اليوم ووجد زوجته طهرت في ذلك اليوم من الحيض..يقول: إذا جامع بعد زوال العذر أن عليه الكفارة.

والصحيح أنه لا يلزمه إمساك بقية اليوم،وأنه يجوز له الجماع،كما قال عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود:«مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلْيَأْكُلْ آخِرَهُ»رواه ابن أبي شيبة(9343)،ورجاله ثقات.

قال الشيخ ابن عثيمين في«الشرح الممتع»(6/409):أي: من أبيح له أن يفطر في أول النهار، أبيح له أن يفطر في آخر النهار.وهذا القول رجَّحه الشيخ ابن عثيمين ،لأنهم في أوله مفطرون بإذن من الشرع.

انتهى الدرس الثامن،ولله الحمد والمنة.