جديد المدونة

جديد الرسائل

السبت، 9 نوفمبر 2019

(16) اختصار الدرس الرابع عشر من دروس التبيان في آداب حملة القرآن


من آداب المعلِّم

الصفة الأُولى:الاهتمام بالأذكار والأدعية النبوية من الأوراد وغيرها

الأوراد: هي التي لها وقت محدد كأذكار الصباح والمساء والأذكار بعد الصلوات وأذكار النوم وغير ذلك، وغير الأوراد: هي التي ليس لها وقت محدد، تكون مطلقة في أي وقت، ما تقيَّد بوقت.

وينبغي تحرِّي الأدعية والأذكار الثابتة في الشرع دون غيرها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (22/510): الْأَدْعِيَةُ وَالْأَذْكَارُ النَّبَوِيَّةُ هِيَ أَفْضَلُ مَا يَتَحَرَّاهُ الْمُتَحَرِّي مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ.

 وَسَالِكُهَا عَلَى سَبِيلِ أَمَانٍ وَسَلَامَةٍ، وَالْفَوَائِدُ وَالنَّتَائِجُ الَّتِي تَحْصُلُ لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ لِسَانٌ وَلَا يُحِيطُ بِهِ إنْسَانٌ.

وقال ابن القيم في «الفوائد»(192): وَأفضل الذّكر وأنفعه مَا واطأ فِيهِ الْقلب اللِّسَان، وَكَانَ من الْأَذْكَار النَّبَوِيَّة، وَشهد الذاكر مَعَانِيه ومقاصده. اهـ.

وملازمة الأذكار والدعوات فيها خير كبير وأجر عظيم، وهي داخلة في العمل بالعلم،ومن أسباب زيادة الإيمان.

من فوائد الذكر والدعاء:

·   طمأنينة وراحة نفسية ومن أعظم أسباب انشراحِ الصدر. قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿أَلا بِذكر الله تطمئِن الْقُلُوب﴾[الرعد: 28].

·   نيل الفلاح والظفَر بالسعادة، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)﴾[الانفال: 45].

·   سببٌ لذكر الله عز وجل للعبد، فمن ذكر الله عز وجل ذكره الله سبحانه عند همه وغمه وكربته وقلقه وحاجته وفقره، قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) [البقرة: 152].

·   حياة للقلوب. كما في «الصحيحين» عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ».

·   الذكر يصلح اللسان ويرطِّبُه من القسوة. روى الترمذي (3375) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ».

·   الذكر مطردة للشيطان. روى الترمذي (2863) عن الحَارِثِ الأَشْعَرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بني إسرائيل أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا» فذكرها وقال عن الكلمة الخامسة: «وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ العَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ».

وقد ذكر ابن القيم في «الوابل الصيب» (41) أن في الذكر أكثر من مائة فائدة، وذكر منها:

 أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره، ويُرضي الرحمن عز وجل، ويزيل الهم والغم عن القلب، ويجلب للقلب الفرح والسرور والبسط، ويقوي القلب والبدن، وينوِّر الوجه والقلب، ويجلب الرزق. اهـ.

هذا، ونلاحظ مما تقدم أن الأدلة نصَّت على فضل الذكر، وليس فيها ذكر الدعاء.

وقد بيَّن ابن القيم في «بدائع الفوائد»(3/9)أن كلًّا من الذكر والدعاء يتضمَّن الآخر ويدخل فيه.

ويدخل في الذكر القرآن الكريم، بل هو أفضل الذكر، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9].

قال النووي رَحِمَهُ الله في «المجموع» (2/164): قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ إلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَذِهِ الْأَذْكَارِ فِيهَا. اهـ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصفة الثانية: مراقبة الله عَزَّ وَجَل

المراقبة: دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه. «مدارج السالكين» (2/86).

مراقبة الله عز وجل في السر والعلانية من أهمِّ صفات المعلم. فإن هذا هو الإحسان الذي سأل جبريل عنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ».

 السِّر: ما غاب في القلب من العقائد وسائر أعمال القلب، و ما غاب عن أعين الناس.

والمراد يصلح باطنه من العقائد الشركية والبدعية وسائر الأمراض الباطنة كالحسد والنفاق والرياء والعجب والكبر والغرور..

ويصلح أعماله التي يكون فيها خاليًا عن أعيُنِ الناس، فإن بعض الناس يصلح حاله بين الناس، ولا يصلح ما بينه وبين الله، فإذا خلا وانفرد وقع في محارم الله. قال تعالى في صفات المنافقين:﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)﴾ [النساء: 108].

العلانية: الأعمال التي يراها الناس.

ومراقبة الله في السر علامة على كمال الإيمان قال الحافظ ابن رجب في «جامع العلوم والحكم»(410): تَقْوَى اللَّهِ فِي السِّرِّ هُوَ عَلَامَةُ كَمَالِ الْإِيمَانِ، وَلَهُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي إِلْقَاءِ اللَّهِ لِصَاحِبِهِ الثَّنَاءَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. اهـ.

وتحصل هيبةُ الناس للشخص وحياؤهم منه بقدر هيبته وخوفه من ربه وحيائه منه في السِّر.

من الأسباب التي تعين على مراقبة الله سبحانه:

·   اليقين بأن الله سبحانه عَليمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَيَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ سبحانه جلَّ شأنه.

 قال تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾[الحديد: 3].

·   الذكر والدعاء. قال ابن القيم في «الوابل الصيب»(42): الذكر يورثه المراقبة حتى يدخله في باب الاحسان، فيعبد الله كأنه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت. اهـ.

ومن أدعية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلماللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ..» رواه النسائي(1305)عن عمار بن ياسر.

(فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) أَيْ: فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. «مرقاة المفاتيح»(5/1735).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصفة الثالثة: التوكل

هذا من صفات المعلم وآدابه وأخلاقه أن يكون متوكلًا على الله عز وجل لا على غيره.

التوكل لغة: إِظْهارُ العَجْزِ والاعْتماد عَلَى غَيْرِكَ. «لسان العرب»(11/736).

والتوكل شرعًا: قال ابن رجب رحمه الله في «جامع العلوم والحكم» (2/497): هو صِدْقُ اعْتِمَادِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي اسْتِجْلَابِ الْمَصَالِحِ، وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كُلِّهَا، وَكِلَةُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَيْهِ. اهـ.

·   والتوكل على الله سبحانه يدل على صدق الإيمان ويقينه، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)﴾[الأنفال: 2].

·   ومن توكل على الله كفاه الله عز وجل البلاء والمصائب والأذى والحوائج، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3]. ﴿ فَهُوَ حَسْبُهُ أي: كافيه.

·   التوكل على الله حصن من الشيطان. قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)﴾[النحل].

·   من أسباب محبة الله عز وجل. قال تعالى: ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(160)﴾[آل عمران].

·   من أسباب الرزق وتيسيره، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» رواه الإمام أحمد (205) عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

(خِمَاصًا) أي: جياعًا ضامرة البطون. (بِطَانًا) أي: ممتلئة البطون.

ومن الأشياء المعينة على التوكل على الله:

·   العلم النافع فالعلم نورٌ وضياء، ويهدي إلى صراط مستقيم.

·   الإيمان بالقدر. ذكر والدي الشيخ مقبل رحمه الله تعالى في «الجامع الصحيح في القدر» (14) من ثمرات الإيمان بالقدر: التوكل واليقين والاعتماد على الله والاستسلام له:﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ َ لَنَا [التوبة: 51].

·   معرفة سيرة الأنبياء فهم أسوة المتوكلين.

·   التواضع. قال ابن الحاج في «المدخل»(3/71): إذَا ثَبَتَ التَّوَاضُعُ فِي الْقَلْبِ ثَبَتَ فِيهِ جَمِيعُ الْخَيْرِ مِنْ الرَّأْفَةِ، وَالرِّقَّةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالِاسْتِكَانَةِ، وَالْقَنُوعِ، وَالرِّضَى، وَالتَّوَكُّلِ، وَحُسْنِ الظَّنِّ، وَشِدَّةِ الْحَيَاءِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَنَفْيِ الطَّمَعِ، وَجِهَادِ النَّفْسِ، وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ، وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ، وَالتَّشَاغُلِ عَنْ النَّفْسِ، وَالْمُبَادَرَةِ فِي الْعَمَلِ بِالْخَيْرِ، وَالْبِطَاءِ عَنْ الشَّرِّ. اهـ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والآداب التي ساقها المؤلف رحمه الله في آداب معلم القرآن، هي أيضًا آدابٌ يحتاج إليها كلُّ معلم، بل هي آداب كلِّ مسلم ومسلمة. ولكنهم ينصون على المعلم تنبيهًا له على هذه الآداب فيحذر من مخالفتِها، ولأنه قدوة في نظر الناس فيبدأ بإصلاح نفسه قبل إصلاح الناس.

 قال الشيخ ابن باز في «مجموع الفتاوى» (2/312): العالم يُعرف بصبره وتقواه لله، وخشيته له سبحانه وتعالى، ومسارعته إلى ما أوجب الله ورسوله، وابتعاده عما حرم الله ورسوله.

هكذا يكون العالم سواء كان مدرسا أو قاضيا أو داعيا إلى الله، أو في أي عمل، فواجبه أن يكون قدوة في الخير، وأن يكون أسوة في الصالحات، يعمل بعلمه ويتقي الله أين ما كان، ويرشد الناس إلى الخير، حتى يكون قدوة صالحة لطلابه، ولأهل بيته ولجيرانه ولغيرهم ممن عرفه، يتأسون به: بأقواله وأعماله الموافقة لشرع الله عز وجل. اهـ.

 هذا الفصل فيه دعوة معلِّم القرآن إلى العمل بالعلم ومكارم الأخلاق، وهذا هو العلم النافع. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في «الشرح الممتع»(7/166): نحن ينقصنا في علمنا أننا لا نطبق ما علمناه على سلوكنا، وأكثر ما عندنا أننا نعرف الحكم الشرعي، أما أن نطبق، فهذا قليل ـ نسأل الله أن يعاملنا بعفوه ـ وفائدة العلم هو التطبيق العملي، بحيث يظهر أثرُ العلم على صفحات وجه الإنسان، وسلوكه، وأخلاقه، وعبادته، ووقاره، وخشيته وغير ذلك، وهذا هو المهم.

فالأمور النظرية ليست هي المقصودة في العلم، فالعلم فائدته الانتفاع.

وكم من عامي جاهل تجد عنده من الخشوع لله عز وجل، ومراقبة الله، وحسن السيرة، والسلوك، والعبادة، أكثر بكثير مما عند طالب العلم. اهـ المراد.