بسم الله
الرحمن الرحيم
فصل [غزوة حنين]
ولما بلغ فتحُ مكة هوازنَ
جمعهم مالك بن عوف النصري، فاجتمع إليه ثقيف وقومه بنو نصر بن معاوية، وبنو جشم،
وبنو سعد بن بكر، وبشر من بني هلال بن عامر، وقد استصحبوا معهم أنعامهم ونساءهم
لئلا يفرُّوا، فلما تحقق ذلك دريد بن الصِّمَّة شيخ بني جُشم ـ وكانوا قد حملوه في
هودج لكبره تيمنًا برأيه ـ أنكر ذلك على مالك بن عوف النصري وهجَّنه، وقال: إنها
إن كانت لك لم ينفعك ذلك، وإن كانت عليك فإن المنهزِم لا يرده شيء. وحرَّضهم على
ألا يقاتلوا إلا في بلادهم، فأبوا عليه ذلك واتبعوا رأي مالك بن عوف، فقال دُريد:
هذا يوم لم أشهده ولم يغب عني.
وبعث صلى الله عليه
وسلم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي فاستعلم له خبرَ القوم وقصدهم، فتهيَّأ رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم للقائهم، واستعار من صفوانَ بنِ أمية أدراعًا، قيل: مائة.
وقيل: أربعمائة. واقترض منه جملة من المال، وسار إليهم في العشرة آلاف الذين كانوا
معه في الفتح، وألفين من طلقاء مكة، وشهد معه صفوان بن أمية حنينًا وهو مشرك، وذلك
في شوال من هذه السنة، واستخلف على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد
شمس، وله نحو عشرين سنة.
ومر صلى الله عليه وسلم
في مسيره ذلك على شجرة يعظمها المشركون يقال لها ذات أنواط، فقال بعض جهَّال الأعراب:
اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال: «قلتم ـ والذي نفسي بيده ـ كما قال
قوم موسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، لتركبن سنن من كان قبلكم» .
ثم نهض صلى الله عليه
وسلم فوافى حنينًا، وهو وادٍ حدور من أودية تهامة. وقد كمنت لهم هوازن فيه، وذلك
في عماية الصبح، فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد، فولى المسلمون لا يلوي أحد
على أحد، فذلك قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ
عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ
مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة:25]، وذلك أن بعضهم قال: لن نغلب اليوم من قلة. وثبت رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ولم يفر، ومعه من الصحابة: أبو بكر، وعمر، وعلي، وعمه العباس،
وابناه: الفضل، وقُثم، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وابنه جعفر، وآخرون.
وهو صلى الله عليه وسلم
يومئذ راكب بغلته التي أهداها له فروة بن نُفاثة الجُذامي، وهو يركضها إلى وجه
العدو، والعباس آخذ بحَكَمَتها يكفُّها عن التقدُّم، وهو صلى الله عليه وسلم ينوِّه
باسمه يقول: (أنا النبي لا كذب.. أنا ابن عبد المطلب). ثم أمر العباس، وكان جهيرَ
الصوت، أن ينادي: يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب الشجرة، يا معشر أصحاب السمرة،
فلما سمعه المسلمون وهم فارُّون كرُّوا وأجابوه: لبيك لبيك، وجعل الرجل إذا لم
يستطع أن يثني بعيره لكثرة المنهزمين، نزل عن بعيره وأخذ درعه فلبسها، وأخذ سيفه
وتُرسه، ويرجع راجلًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا اجتمع حوله عصابة
منهم نحو المائة، استقبلوا هوازن فا جتلدوا هم وإياهم، واشتدت الحرب، وألقى الله
في قلوب هوازن الرعب حين رجعوا، فلم يملكوا أنفسهم، ورماهم صلى الله عليه وسلم
بقبضة حصى بيده، فلم يبق منهم أحد إلا ناله منها، وفسِّر قولُه تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ
اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال:17]، بذلك. وعندي في ذلك نظر، لأن الآية نزلت في قصة بدر كما تقدم.
وتفر هوازن بين يدي
المسلمين، ويتبعونهم يقتلون ويأسرون، فلم يرجع آخر الصحابة إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلا والأسارى بين يديه، وحاز صلى الله عليه وسلم أموالَهم وعيالهم.
وانحازت طوائف من هوازن
إلى أوطاس، فبعث صلى الله عليه وسلم إليهم أبا عامر الأشعري واسمه عبيد ومعه ابن
أخيه أبو موسى الأشعري حاملا راية المسلمين في جماعة من المسلمين، فقتلوا منهم خلقًا.
وقُتل أمير المسلمين
أبو عامر، رماه رجل فأصاب ركبته، فكان منها حتفُه، فقتَل أبو موسى قاتلَه، وقيل:
بل أسلم قاتلُه بعد ذلك، وكان أحد إخوةٍ عشرة قَتَل أبو عامرٍ التسعةَ قبله، فالله
أعلم.
ولما أخبر أبو موسى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك استغفر صلى الله عليه وسلم لأبي عامر. وكان أبو
عامر رابع أربعة استُشهدوا يوم حنين، والثاني أيمن بن أم أيمن، والثالث يزيد بن
زمعة بن الأسود، والرابع سراقة بن الحارث بن عدي من بني العجلان من الأنصار رضي
الله عنهم. وأما المشركون فقتل منهم خلق كثير نحو الأربعين
وفي هذه الغزوة قال صلى
الله عليه وسلم: «من قَتل قتيلًا فله سلبُه» في قصة أبي قتادة رضي الله عنه.
**********************
هذا الفصل
في غزوة حنين، وقد كانت هذه الغزوة في شوال عقب فتح مكة. وسبب غزوة حنين أن
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ بلغه تجمُّع هوازن
وبعض القبائل لقتال المسلمين فاستعدَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَسَلَّمَ لقتالهم، ويستفاد من هذا خروج الإمام إلى عدوه ولا ينتظر مجيئه إذا رأى
فيه مصلحة. فخرج النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ إلى
حنين وكانت هناك المعركة وهذه القبائل جمعها مالك بن عوف النصري وأمر بأخذ الذراري
والأنعام لئلا يفروا، أي: ليكون أثبت لهم للبقاء وعدم الانهزام فلما تحقق هذا دريد
بن الصمة شيخ بني جشم؛ وقد كان شجاعًا في شبابه وله قوة رأي فأخذوه معهم ، يقول: (تيمنًا
برأيه) والتيمن التبرك، أي: تبركًا برأيه.
ودريد بن
الصمة قتل على كفره في غزوة أوطاس. أما مالك بن عوف النصري فجاء أنه أسلم بعد ذلك.
(أنكر ذلك على مالك بن
عوف النصري وهجَّنه، وقال: إنها إن كانت لك لم ينفعك ذلك، وإن كانت عليك فإن
المنهزم لا يرده شيء).
(هجَّنه) أي: عابه وشنع عليه.
(وحرضهم على ألا
يقاتلوا إلا في بلادهم، فأبوا عليه ذلك واتبعوا رأي مالك بن عوف، فقال دريد: هذا
يوم لم أشهده ولم يغب عني).
يأمرهم
ابن الصمة أن يبقوا في بلادهم وأن لا يتقدموا إلى المسلمين ،ولكن يبقون في بلادهم
مدافعين إذا جاءهم أحد فاتبعوا قول مالك بن عوف، فقال: (هذا يوم لم أشهده - أي: فيما
مضى - ولم
يغب عني).
غزوة حنين
يقال لها: غزوة هوازن، وغزوة أوطاس. غزوة هوازن: باعتبار القبيلة التي قاتلت،
وغزوة حنين وأوطاس: باعتبار المحل. قال ابن القيم
رَحِمَهُ اللَّهُ في «زاد المعاد» (3/408)عن غَزْوَةِ حُنَيْنٍ وَتُسَمَّى
غَزْوَةَ أَوْطَاسٍ: وَهُمَا مَوْضِعَانِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ،
فَسُمِّيَتِ الْغَزْوَةُ بِاسْمِ مَكَانِهَا، وَتُسَمَّى غَزْوَةَ هَوَازِنَ،
لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَتَوْا لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. اهـ.
وسيأتي أن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ بعد معركة حنين أرسل إلى الذين
فروا من المشركين إلى أوطاس .
ثم ذكر
الحافظ ابن كثير رحمه الله أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَسَلَّمَ بعث عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي يستعلم له خبر القوم وهذا جاء عند أبي
داود (2501) عَنْ سَهْلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ،
أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
حُنَيْنٍ فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ، حَتَّى كَانَتْ عَشِيَّةً فَحَضَرْتُ
الصَّلَاةَ، عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ
رَجُلٌ فَارِسٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي انْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ
حَتَّى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَنَا بِهَوَازِنَ عَلَى بَكْرَةِ
آبَائِهِمْ بِظُعُنِهِمْ، وَنَعَمِهِمْ، وَشَائِهِمْ، اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ،
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «تِلْكَ
غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ...». وفيه جواز التجسس على الكفار،
والممنوع التجسس على المسلم ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ [الحجرات:12].
(واستعار من صفوان بن
أمية أدراعًا، قيل: مائة. وقيل: أربعمائة. واقترض منه جملة من المال).
هذا حديث
ثابت في استعارة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ من صفوان
بن أمية وقد كان مشركًا .روى أبو داود في«سننه» (3562)،وأحمد في«مسنده»
(15302)عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ مِنْهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَدْرَاعًا» فَقَالَ:
أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: «بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ» قَالَ: فَضَاعَ
بَعْضُهَا، فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَضْمَنَهَا لَهُ، فَقَالَ: أَنَا الْيَوْمَ يَا رَسُولَ اللهِ فِي الْإِسْلَامِ
أَرْغَبُ.
ويستفاد
منه جواز الاستعارة من المشرك عدة السلاح.
(وسار إليهم في العشرة
آلاف الذين كانوا معه في الفتح، وألفين من طلقاء مكة).
هذا فيه
عدد المسلمين الذين شهدوا غزوة حنين اثنا عشر ألفًا ،عشرة آلاف الذين شهدوا فتح
مكة كما تقدم ،وألفان من الطُّلقاء وهم أصحاب مكة الذين منَّ عليهم النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ وأطلقهم.
(ومر صلى الله عليه
وسلم في مسيره ذلك على شجرة يعظمها المشركون يقال لها ذات أنواط، فقال بعض جهال
العرب: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال: «قلتم ـ والذي نفسي بيده ـ كما
قال قوم موسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم ألهة، لتركبن سنن من كان قبلكم»).
فيه تعليم
العقيدة في السفر.
(ثم نهض صلى الله عليه
وسلم فوافى حنينًا، وهو وادٍ حدور من أودية تهامة. وقد كمنت لهم هوازن فيه، وذلك
في عماية الصبح)
(واد حدور) أي: نزول.
(وقد كمنت) أي: اختفت لقتالهم.
(وذلك في
عماية الصبح) قال ابن الأثير في «النهاية» (3/305): أي في بَقيّة ظُلمة الليل. اهـ.
(فحملوا على المسلمين
حملة رجل واحد، فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد، فذلك قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ
كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا
رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة:25]، وذلك أن
بعضهم قال: لن نغلب اليوم من قلة).
فيه السبب
في غلبة المشركين في أول الأمر أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا في غِرَّة فحمل إليهم المشركون حملةً واحدة ففرَّ بعض الصحابة ،وأيضًا عُجْبُ بعضهم بالكثرة،
وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ
عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ
مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة:25].
(لن نغلب
اليوم من قلة) وهذا جاء
في بعض الأحاديث.
وفي هذا
دليل أن النصر من عندالله ليس بكثرة العَدَدِ ولا بالعُدَد.وما النصر إلا من
عندالله .وقال تعالى {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}. قال ابن
القيم رحمه الله في زاد المعاد(3/418):وَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ
أَذَاقَ الْمُسْلِمِينَ أَوَّلًا مَرَارَةَ الْهَزِيمَةِ وَالْكَسْرَةِ مَعَ
كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ، وَقُوَّةِ شَوْكَتِهِمْ ،لِيُطَامِنَ رُءُوسًا
رُفِعَتْ بِالْفَتْحِ، وَلَمْ تَدْخُلْ بَلَدَهُ وَحَرَمَهُ كَمَا دَخَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعًا رَأْسَهُ مُنْحَنِيًا عَلَى فَرَسِهِ،
حَتَّى إِنَّ ذَقْنَهُ تَكَادُ تَمَسُّ سُرُجَهُ تَوَاضُعًا لِرَبِّهِ وَخُضُوعًا
لِعَظَمَتِهِ، وَاسْتِكَانَةً لِعِزَّتِهِ، أَنْ أَحَلَّ لَهُ حَرَمَهُ
وَبَلَدَهُ، وَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدَهُ،
وَلِيُبَيِّنَ سُبْحَانَهُ لِمَنْ قَالَ: (لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ عَنْ قِلَّةٍ)
أَنَّ النَّصْرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ فَلَا
غَالِبَ لَهُ، وَمَنْ يَخْذُلُهُ فَلَا نَاصِرَ لَهُ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ
سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى نَصْرَ رَسُولِهِ وَدِينِهِ، لَا كَثْرَتُكُمُ
الَّتِي أَعْجَبَتْكُمْ، فَإِنَّهَا لَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا، فَوَلَّيْتُمْ
مُدْبِرِينَ، فَلَمَّا انْكَسَرَتْ قُلُوبُهُمْ أُرْسِلَتْ إِلَيْهَا خِلَعُ
الْجَبْرِ مَعَ بَرِيدِ النَّصْرِ {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:
26] وَقَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنَّ خِلَعَ النَّصْرِ وَجَوَائِزَهُ إِنَّمَا
تَفِيضُ عَلَى أَهْلِ الِانْكِسَارِ، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ
وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5] [الْقَصَصِ: 6].اهـ.
ويستفاد
منه ضرر العُجْب فبعضُ الصحابة أُعجب بكثرة المسلمين ،وقد كان هناك نبي من
الأنبياء أعجب بقومه فأمره الله عَزَّ وَجَلَّ أن يختار واحدة من إحدى ثلاث. روى
أحمد «في مسنده» (18933) عَنْ صُهَيْبٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ أَيَّامَ حُنَيْنٍ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ
يَفْعَلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «إِنَّ نَبِيًّا كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَعْجَبَتْهُ
أُمَّتُهُ، فَقَالَ: لَنْ يَرُومَ هَؤُلَاءِ شَيْءٌ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ:
أَنْ خَيِّرْهُمْ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ
عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَسْتَبِيحَهُمْ، أَوِ الْجُوعَ، أَوِ الْمَوْتَ»، قَالَ:
«فَقَالُوا: أَمَّا الْقَتْلُ أَوِ الْجُوعُ، فَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَلَكِنِ
الْمَوْتُ» قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«فَمَاتَ فِي ثَلَاثٍ سَبْعُونَ أَلْفًا» ، قَالَ: فَقَالَ: «فَأَنَا أَقُولُ
الْآنَ: اللَّهُمَّ بِكَ أُحَاوِلُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ».والحديث في
«الصحيح المسند» (1/274) لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ.
ومن
الأمور التي يذكرها أهل العلم في آداب الطالب حذره من العجب، لا يُعجب بحفظه، ولا
بفهمه، ولا بذكائه . فالعُجْبُ هلكة وقد ثبت عن الفضيل بن عياض قال: آفَة الْعلم
النسْيَان وَآفَة العِزِّ الْعجب. أخرجه ابن أبي خيثمة في «تاريخه» (1/292).
وقال الذهبي
في «سير أعلام النبلاء» (18/192): فَمَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِلعمل كَسره العِلْمُ،
وَبَكَى عَلَى نَفْسِهِ، وَمِنْ طلب العِلْم لِلمدَارس وَالإِفتَاء وَالفخر
وَالرِّيَاء، تحَامقَ، وَاختَال، وَازدرَى بِالنَّاسِ، وَأَهْلكه العُجْبُ،
وَمَقَتَتْهُ الأَنْفُس* {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ
دَسَّاهَا(10)} [الشَّمْس] أَي دسَّسَهَا بِالفجُور وَالمَعْصِيَة).اهـ.
وقال
الشاعر:
الْمَالُ
آفَتُهُ التَّبْذِيرُ وَالنَّهْبُ * * * وَالْعِلْمُ آفَتُهُ الْإِعْجَابُ وَالْغَضَبُ.
مرجع البيت «جامع بيان العلم وفضله» (1/569).
من آفات العلم العُجْبُ والغضب ،ومن أسباب نزع بركة
العلم ونسيانه العُجْب والغضب. والنفس تحتاج إلى تأديب ومعالجة فإن رأى منها العُجْب
كسرها -نسأل الله أن يعيننا-وذكَّرها بالضعف وبالعجز والوعيد على ذلك ، وإن رأى
منها ضعفًا ووهْنًا رَفعها وقوَّاها حتى ترتفع المعنوية ويحصل النشاط. كان الوالد
الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُ اللَّهُ يقول: دارِ نفسَك ولو بحبة حلوى.اهـ. النفس
عندها تمرُّد وعندها رغبة شديدة في مجاراة الناس ومنافستهم ،فهذا من أُمنيَّاتها
أن تكون مثل ما عليه المجتمعات من خروج ودخول ،ومنافسة في ملذات الدنيا وشهواتها ،لكن
بتأديبها ،وتزكيتها تنشط لفعل الخير وتخضع وتسابق لطريق الجنة.
وَالنَّفْسُ رَاغِبَةٌ إِذَا رَغَّبْتَهَا * * * وَإِذَا تُرَدُّ إِلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
ومما ذكر
لنا الوالد الشيخ مقبل الوادعي رَحِمَهُ اللَّهُ يقول: أتاه الشيطان -بمعنى وسوس له
–وقال: أنت لا تصلح لطلب العلم أنت لا تصلح إلا للمسحة والزنبيل. المثبطون عن طلب
العلم الشيطان والنفس وجلساء السوء فأحيانًا قد تأتي وسوسة أنت ليس عندك فهم ولا
تحفظ ،ما أنت مثل فلان يحفظ سريعًا وتأتي الوساوس في التثبيط عن طلب العلم وهذا قد
لا يسلم منه أحد.
(وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفرَّ،
ومعه من الصحابة: أبو بكر، وعمر، وعلي، وعمه العباس، وابناه: الفضل، وقثم، وأبو
سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وابنه جعفر، وآخرون).
ثم ذكر
ابن كثير بعض الذين ثبتوا ولم يفروا ومنهم أبو بكر وعمر وعلي إلى آخره. وقال ابن
كثير رحمه الله في تفسيره (3/547):وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ،ومنهم من قال:
ثمانون.
(وهو صلى الله عليه
وسلم يومئذ راكب بغلته التي أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، وهو يركضها إلى وجه
العدو، والعباس آخذ بحكَمتها يكفُّها عن التقدم، وهو صلى الله عليه وسلم ينوِّه
باسمه يقول: (أنا النبي لا كذب.. أنا ابن عبد المطلب)
هذا فيه
شجاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ؛ لأن الراكب على
البغلة ليس عنده ما يهيؤه للفرار لأن البغلة ضعيفة ،ومع ذلك يقدِّمها إلى العدو.قال
الحافظ ابن كثير في تفسيره(3/549):وَهَذَا فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ
الشَّجَاعَةِ التَّامَّةِ إِنَّهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ فِي حَوْمَةِ
الْوَغَى وَقَدِ انْكَشَفَ عَنْهُ جَيْشُهُ وهو مع هذا عَلَى بَغْلَةٍ وَلَيْسَتْ
سَرِيعَةَ الْجَرْيِ وَلَا تَصْلُحُ لفرٍّ ولا لكرٍّ وَلَا لِهَرَبٍ وَهُوَ مَعَ
هَذَا أَيْضًا يَرْكُضُهَا إِلَى وُجُوهِهِمْ وَيُنَوِّهُ بِاسْمِهِ لِيَعْرِفَهُ
مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى
يَوْمِ الدِّينِ وَمَا هَذَا كُلُّهُ إِلَّا ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ
وَعِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّهُ سَيَنْصُرُهُ وَيُتِمُّ مَا أَرْسَلَهُ بِهِ
وَيُظْهِرُ دِينَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ
أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ أَيْ طُمَأْنِينَتَهُ وَثَبَاتَهُ
عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَيْ الَّذِينَ مَعَهُ وَأَنْزَلَ
جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ.اهـ.
* حكم أكل البغلة: لا يجوز أكل البغلة؛ لأنها
متولدة من حلال وحرام فيغلب جانب الحرام على الحلال. قال ابن قدامة في «المغني» (9/407): وَالْبِغَالُ حَرَامٌ عِنْدَ كُلِّ مَنْ
حَرَّمَ الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْهَا،
وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الشَّيْءِ لَهُ حُكْمُهُ فِي التَّحْرِيمِ. وَهَكَذَا إنْ
تَوَلَّدَ مِنْ بَيْنَ الْإِنْسِيِّ وَالْوَحْشِيِّ وَلَدٌ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ،
تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيم اهـ.
والبغلة أبوها حمار وأمها فرس. في «المعجم
الوسيط» (1/ 64): (الْبَغْل)
ابْن الْفرس من الْحمار والجمع أبغال وبغال اهـ.
(بحكَمتها) الحكمة اللجام.
والحديث
في «صحيح مسلم» (1775) عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَلَزِمْتُ أَنَا وَأَبُو
سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ نُفَارِقْهُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ بَيْضَاءَ أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ
الْجُذَامِيُّ، فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ وَلَّى
الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّارِ، قَالَ عَبَّاسٌ: وَأَنَا آخِذٌ
بِلِجَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكُفُّهَا
إِرَادَةَ أَنْ لَا تُسْرِعَ، وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «أَيْ عَبَّاسُ، نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ»، فَقَالَ عَبَّاسٌ:
وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا، فَقُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ
السَّمُرَةِ؟ قَالَ: فَوَاللهِ، لَكَأَنَّ عَطْفَتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي
عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ، يَا لَبَّيْكَ،
قَالَ: فَاقْتَتَلُوا وَالْكُفَّارَ، وَالدَّعْوَةُ فِي الْأَنْصَارِ يَقُولُونَ:
يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: ثُمَّ قُصِرَتِ
الدَّعْوَةُ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَقَالُوا: يَا بَنِي
الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَنَظَرَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ
كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا إِلَى قِتَالِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ» قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ
الْكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: «انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ» قَالَ: فَذَهَبْتُ
أَنْظُرُ فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى، قَالَ: فَوَاللهِ،
مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ
كَلِيلًا، وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا.
قال
النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم(12/116): هَذَا فِيهِ مُعْجِزَتَانِ
ظَاهِرَتَانِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَاهُمَا
فِعْلِيَّةٌ وَالْأُخْرَى خَبَرِيَّةٌ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِهَزِيمَتِهِمْ وَرَمَاهُمْ بِالْحَصَيَاتِ فَوَلَّوْا
مُدْبِرِينَ.اهـ.
وفي «صحيح
مسلم» (1777) عن سلمة بن الأكوع، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا، فَلَمَّا وَاجَهْنَا
الْعَدُوَّ تَقَدَّمْتُ فَأَعْلُو ثَنِيَّةً، فَاسْتَقْبَلَنِي رَجُلٌ مِنَ
الْعَدُوِّ، فَأَرْمِيهِ بِسَهْمٍ فَتَوَارَى عَنِّي، فَمَا دَرَيْتُ مَا صَنَعَ،
وَنَظَرْتُ إِلَى الْقَوْمِ فَإِذَا هُمْ قَدْ طَلَعُوا مِنْ ثَنِيَّةٍ أُخْرَى،
فَالْتَقَوْا هُمْ وَصَحَابَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَوَلَّى صَحَابَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْجِعُ
مُنْهَزِمًا، وَعَلَيَّ بُرْدَتَانِ مُتَّزِرًا بِإِحْدَاهُمَا مُرْتَدِيًا
بِالْأُخْرَى، فَاسْتَطْلَقَ إِزَارِي فَجَمَعْتُهُمَا جَمِيعًا، وَمَرَرْتُ عَلَى
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْهَزِمًا وَهُوَ عَلَى
بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَقَدْ رَأَى ابْنُ الْأَكْوَعِ فَزَعًا»، فَلَمَّا غَشُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ
تُرَابٍ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، فَقَالَ: «شَاهَتِ
الْوُجُوهُ»، فَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلَّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ
تُرَابًا بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَهَزَمَهُمُ اللهُ عَزَّ
وَجَلَّ، وَقَسَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَائِمَهُمْ
بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
وهذه بركة
إلهية ومن معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قبضة من
حَصى تصل إلى جميعهم وتملأ أعينهم، مع تباعدهم وتفرقهم وكثرتهم.
(وانحازت طوائف من
هوازن إلى أوطاس، فبعث صلى الله عليه وسلم إليهم أبا عامر الأشعري واسمه عبيد ومعه
ابن أخيه أبو موسى الأشعري حاملا راية المسلمين في جماعة من المسلمين، فقتلوا منهم
خلقًا).
لما هُزم
المشركون انحاز طوائف من هوازن إلى أوطاس وانحاز طوائف إلى الطائف كما سيأتي معنا في الفصل الآتي بعد غزوة حنين. فلما فرغ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ من معركة حنين بعث إلى
الذين فروا إلى أوطاس وأمَّر عليهم أبا عامر وهو عُبيد فقُتل رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ في غزوة أوطاس .وقصته رضي الله عنه في«الصحيحين» البخاري (4323)، ومسلم (2498) عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
قَالَ: لَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُنَيْنٍ
بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إِلَى أَوْطَاسٍ، فَلَقِيَ دُرَيْدَ بْنَ
الصِّمَّةِ، فَقُتِلَ دُرَيْدٌ وَهَزَمَ اللَّهُ أَصْحَابَهُ، قَالَ أَبُو مُوسَى:
وَبَعَثَنِي مَعَ أَبِي عَامِرٍ، فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ، رَمَاهُ
جُشَمِيٌّ بِسَهْمٍ فَأَثْبَتَهُ فِي رُكْبَتِهِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ
فَقُلْتُ: يَا عَمِّ مَنْ رَمَاكَ؟ فَأَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى فَقَالَ: ذَاكَ
قَاتِلِي الَّذِي رَمَانِي، فَقَصَدْتُ لَهُ فَلَحِقْتُهُ، فَلَمَّا رَآنِي
وَلَّى، فَاتَّبَعْتُهُ وَجَعَلْتُ أَقُولُ لَهُ: أَلاَ تَسْتَحْيِي، أَلاَ
تَثْبُتُ، فَكَفَّ، فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ بِالسَّيْفِ فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ
قُلْتُ لِأَبِي عَامِرٍ: قَتَلَ اللَّهُ صَاحِبَكَ، قَالَ: فَانْزِعْ هَذَا
السَّهْمَ فَنَزَعْتُهُ فَنَزَا مِنْهُ المَاءُ، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أَقْرِئِ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلاَمَ، وَقُلْ لَهُ: اسْتَغْفِرْ
لِي. وَاسْتَخْلَفَنِي أَبُو عَامِرٍ عَلَى النَّاسِ، فَمَكَثَ يَسِيرًا ثُمَّ
مَاتَ، فَرَجَعْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي بَيْتِهِ عَلَى سَرِيرٍ مُرْمَلٍ وَعَلَيْهِ فِرَاشٌ، قَدْ أَثَّرَ رِمَالُ
السَّرِيرِ بِظَهْرِهِ وَجَنْبَيْهِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِنَا وَخَبَرِ أَبِي
عَامِرٍ، وَقَالَ: قُلْ لَهُ اسْتَغْفِرْ لِي، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ
رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ».
وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ
القِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ مِنَ النَّاسِ». فَقُلْتُ: وَلِي
فَاسْتَغْفِرْ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ
ذَنْبَهُ، وَأَدْخِلْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُدْخَلًا كَرِيمًا» قَالَ أَبُو
بُرْدَةَ-الراوي عن أبي موسى-: إِحْدَاهُمَا لِأَبِي عَامِرٍ، وَالأُخْرَى لِأَبِي
مُوسَى.
(وكان أبو عامر رابع
أربعة استشهدوا يوم حنين، والثاني أيمن بن أم أيمن، والثالث يزيد بن زمعة بن
الأسود، والرابع سراقة بن الحارث بن عدي من بني العجلان من الأنصار رضي الله عنهم.
وأما المشركون فقتل منهم خلق كثير نحو الأربعين.
وفي هذه الغزوة قال صلى
الله عليه وسلم: «من قتل قتيلًا فله سلبه» في قصة أبي قتادة رضي الله عنه).
ثم ذكر
الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ الذين قتلوا في هذه الغزوة ويعدُّ أبا عامر من
شهداء حنين؛ لأن غزوة أوطاس تابعة لغزوة حنين فبعد معركة حنين أرسل النبي صلى الله
عليه وعلى آله وسلم إلى الفارين المنهزمين الذين اتجَهُوا إلى أوطاس،أرسل لقتالهم ،وذهب بنفسه إلى الطائف وهناك طائفة
أخرى انهزمت إلى مكان يقال له: نخلة فيما ذكر ابْنُ إسْحَاقَ كما في سيرة ابن
هشام(2/453)يقول: وَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، أَتَوْا الطَّائِفَ
وَمَعَهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ، وَعَسْكَرَ بَعْضُهُمْ بِأَوْطَاسٍ، وَتَوَجَّهَ
بَعْضُهُمْ نَحْوَ نَخْلَةَ .اهـ.
(وفي هذه الغزوة قال
صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلاً فله سلبه» في قصة أبي قتادة رضي الله عنه).
السلب: ما
يكون مع القتيل قد يكون أشياء ثمينة من الذهب والفضة وقد يكون من الأسلحة ومن
الأمتعة وغير ذلك
والقصة
بتمامها في البخاري (3142)، ومسلم (1751) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا التَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ،
فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ المُشْرِكِينَ عَلاَ رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ،
فَاسْتَدَرْتُ حَتَّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ حَتَّى ضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ
عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا
رِيحَ المَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ المَوْتُ، فَأَرْسَلَنِي، فَلَحِقْتُ عُمَرَ
بْنَ الخَطَّابِ فَقُلْتُ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَمْرُ اللَّهِ، ثُمَّ
إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا، وَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ»،
فَقُمْتُ فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي، ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ
قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ»، فَقُمْتُ فَقُلْتُ: مَنْ
يَشْهَدُ لِي، ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ مِثْلَهُ، فَقُمْتُ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟»،
فَاقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ القِصَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
وَسَلَبُهُ عِنْدِي فَأَرْضِهِ عَنِّي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: لاَهَا اللَّهِ، إِذًا لاَ يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ
اللَّهِ، يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
يُعْطِيكَ سَلَبَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«صَدَقَ»، فَأَعْطَاهُ، فَبِعْتُ الدِّرْعَ، فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي
سَلِمَةَ، فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الإِسْلاَمِ.
وفي قصة
أبي قتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دليل على استحقاق القاتل لسَلَب القتيل.
وفيه دليل
على أنه لا بد من شاهد للمسلم أنه قتل فلانًا ، وأعطاه النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ السَّلَب لما شهد له صاحبٌ له.
* استفدنا
خيرًا كبيرًا من غزوة حنين، ومن هذه
الفوائد:
- جواز
بعث الجواسيس إلى الكفار.
- جواز
الاستعارة، استعارة السلاح ونحوها من المشركين.
- من هذه
الفوائد ضرر العجب.
- شجاعة
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ،وفي صحيح مسلم (2307) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «كَانَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ، وَكَانَ
أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ»،ولم يفر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ في غزوة حنين بل ثبت, ونزل من على بغلته وقال:
أنا عبد الله ورسوله.
- ومنها
جواز قول أنا ابن فلان إذا كان بغير فخر ولا كِبْر «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ،
أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ» رواه البخاري (2864)، ومسلم (1776). وإذا كان بفخرٍ وكِبْر هذا لا يجوز ،ومن
الأشياء التي يقولها بعض العوام بنعرة وفخرأنا فلان ابن فلان، أو أنا بنت فلان،وهذا
لا يجوز { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ
فَخُورٍ}.
- ومن
الفوائد إثبات بعض المعجزات للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَسَلَّمَ ومنها :رمي قبضة من الحصباء فبلغتهم كلهم فولَّو مدبرين منهزمين.
- ومن
الفوائد إكرام الله أبا عامر بالشهادة في هذه الغزوة .
**********************
فصل [غزوة الطائف]
وأما ملك هوازن وهو
مالك بن عوف النصري فإنه حين انهزم جيشُه دخل مع ثقيف حصن الطائف. ورجع صلى الله
عليه وسلم من حنين فلم يدخل مكة حتى أتى الطائف فحاصرهم، فقيل: بضع وعشرون ليلة،
وقيل: بضعة عشرة ليلة. قال ابن حزم وهو الصحيح بلا شك.
قلت: ما أدري من أين صحَّح
هذا؟ بل كأنه أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم لهوازن حين أتوه مسلمين بعد ذلك:
«لقد كنت استأنيت بكم عشرين ليلة» وفي الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
فحاصرناهم أربعين يومًا ـ يعني ثقيفًا ـ فاستعصوا وتمنَّعوا، وقتلوا جماعة من
المسلمين بالنبل وغيره.
وقد خرَّب صلى الله
عليه وسلم كثيرًا من أموالهم الظاهرة وقطع أعنابهم، ولم ينل منهم كبيرَ شيء، فرجع
عنهم فأتى الجعرانة، فأتاه وفد هوازن هنالك مسلمين، وذلك قبل أن يقسم الغنائم،
فخيرهم صلى الله عليه وسلم بين ذراريهم وبين أموالهم، فاختاروا الذرية، فقال صلى
الله عليه وسلم: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم» ، قال المهاجرون
والأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وامتنع الأقرع بن حابس
وعيينة بن حصن وقومُهما حتى أرضاهما وعوضهما صلى الله عليه وسلم. وأراد العباس بن
مرداس السُّلمي أن يفعل كفعلهما، فلم توافقه بنو سليم، بل طيَّبوا ما كان لهم
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فرُدَّت الذرية على هوازن، وكانوا ستة آلاف، فيهم
الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى من بني سعد بن بكر بن هوازن، وهي أخت رسول الله
صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فأكرمها وأعطاها، ورجعت إلى بلادها مختارةً لذلك،
وقيل: كانت هوازن متُّوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برضاعتهم إياه.
ثم قسم صلى الله عليه
وسلم بقيته على المسلمين، وتألَّف جماعةً من سادات قريش وغيرهم، فجعل يعطي الرجلَ
المائة بعير، والخمسين، ونحو ذلك. وفي صحيح مسلم عن الزهري أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أعطى يومئذ صفوان بن أمية ثلاثمائة من الإبل. وعتب بعض الأنصار، فبلغه،
فخطبهم وحدهم، وامتن عليهم بما أكرمهم الله من الإيمان به، وبما أغناهم الله به
بعد فقرهم، وألف بينهم بعد العداوة التامة، فرضوا وطابت أنفسهم رضي الله عنهم
وأرضاهم.
وطعن ذو الخويصرة
التميمي، واسمه حرقوص ـ فيما قيل ـ على النبي صلى الله عليه وسلم في قسمته تلك،
وصفح عنه صلى الله عليه وسلم وحلم، بعد ما قال له بعض الأمراء: ألا نضرب عنقه؟
فقال: لا. ثم قال: «إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم،
فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم».
واستعمل صلى الله عليه
وسلم مالك بن عوف النصري على من أسلم من قومه، وكان قد أسلم وحسن إسلامه، وامتدح
رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصيدة ذكرها ابن إسحاق.
واعتمر صلى الله عليه
وسلم من الجعرانة ودخل مكة، فلما قضى عمرته ارتحل إلى المدينة، وأقام للناس الحج
عامئذٍ عَتَّاب بن أَسيد رضي الله عنه، فكان أول من حج بالناس من أمراء المسلمين.
**********************
في هذا
الفصل أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ لما انتهى
من حنين توجه إلى الطائف لأن المشركين لما هُزِموا في حنين منهم من توجه إلى
الطائف فحاصرهم النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ
وكانوا قد تحصَّنوا في حصن بالطائف ومكث أيامًا .وفي «صحيح مسلم» (1778) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ:
حَاصَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الطَّائِفِ، فَلَمْ
يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ: «إِنَّا قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ اللهُ»، قَالَ
أَصْحَابُهُ: نَرْجِعُ وَلَمْ نَفْتَتِحْهُ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ»، فَغَدَوْا عَلَيْهِ،
فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا»، قَالَ: فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ، فَضَحِكَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا يفيد
أن الإمام إذا حاصر أناسًا، له أن يرجع قبل الفتح إذا رأى مصلحة ولا يُعدُّ
انهزامًا.
وهنا في
الرواية يقول ابن كثير(وفي الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: فحاصرناهم
أربعين يومًا ـ يعني ثقيفًا ـ فاستعصوا وتمنعوا، وقتلوا جماعة من المسلمين بالنبل
وغيره). وهذا يدل على أنه قتل بعض الصحابة في غزوة الطائف.
(وقد خرَّب صلى الله
عليه وسلم كثيرًا من أموالهم الظاهرة وقطع أعنابهم، ولم ينل منهم كبير شيء)
فيه جواز
قطع شجر الكفار، النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قطع
أعنابهم ،وتقدم في غزوة بني النضير ما يدل على ذلك وفي هذا يقول الله: ﴿مَا قَطَعْتُمْ
مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ
الْفَاسِقِينَ﴾ [الحشر:5]. فهذا يفيد قطع شجر الكفار إذلالًا لهم واظهارًا لقوة المسلمين.
(فرجع عنهم فأتى
الجعرانة، فأتاه وفد هوازن هنالك مسلمين، وذلك قبل أن يقسم الغنائم)
النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ لما انتهى من معركة حنين جمع
الغنائم في الجعرانة ثم توجه إلى الطائف وبعد أن حاصرهم مدة رجع صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ إلى الجعرانة فأتاه وفد هوازن وطلبوا منه أن يرد
لهم ذراريهم وأموالهم فقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَسَلَّمَ: أحب الحديث إلي أصدقه فإما أن تختاروا المال أو السبي، فلما رأوا أن
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ لا يرد إليهم الأموال
والسبي كلها اختاروا السبي (الصبيان والنساء).والحديث في«صحيح البخاري» (3131) عَنْ
عُرْوَةَ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الحَكَمِ، وَمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، أَخْبَرَاهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ حِينَ جَاءَهُ
وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ: فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ
وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَحَبُّ الحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ،
إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا المَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ»، وَقَدْ
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَظَرَ آخِرَهُمْ
بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ رَادٍّ
إِلَيْهِمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ
سَبْيَنَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
المُسْلِمِينَ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ:
«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلاَءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ،
وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ مَنْ أَحَبَّ أَنْ
يُطَيِّبَ، فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ
حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا
فَلْيَفْعَلْ؟»، فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
لَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا
لاَ نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا
حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ»، فَرَجَعَ النَّاسُ
فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا.
ثم رد
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك إليهم سبيهم.
وفي قول النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ لوفد هوازن: «لقد كنت استأنيت
بكم عشرين ليلة»أي: تأنيت قبل قسمة الغنائم.وهذا يفيد تأخير الإمام قسمة الغنائم
رجاء إسلام الكفار فيرد إليهم أموالهم وسبيهم.
(وامتنع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وقومهما
حتى أرضاهما وعوضهما صلى الله عليه وسلم. وأراد العباس بن مرداس السلمي أن يفعل
كفعلهما، فلم توافقه بنو سليم، بل طيبوا ما كان لهم لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، فردت الذرية على هوازن، وكانوا ستة آلاف، فيهم الشيماء بنت الحارث بن عبد
العزى من بني سعد بن بكر بن هوازن، وهي أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من
الرضاعة، فأكرمها وأعطاها، ورجعت إلى بلادها مختارةً لذلك).
رد النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ النساء والصبيان وكان السبي ستة آلاف
فيهم الشيماء أخت النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ من
الرضاعة كما ذكروا، والله أعلم.
(وقيل: كانت هوازن متُّوا
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برضاعتهم إياه)
هوازن
يستعطفون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،ويذكرون له امرأة من هوازن وأنها أخت
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ من الرضاعة.
ثم ذكر
الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ تألُّف النبي بالعطاء جماعةً من سادات قريش
وغيرهم،فقد تأَلَّفهم بالغنائم وأعطى كل واحد منهم مائةً من الإبل وأعطى واحدًا
يقال له: عباس بن مرداس دون المائة. وهذا في «صحيح
مسلم» (1060) عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: «أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَصَفْوَانَ بْنَ
أُمَيَّةَ، وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، كُلَّ
إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ
دُونَ ذَلِكَ»، فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:
أَتَجْعَـــلُ
نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ * * * بَيْــــنَ عُيَيْنَـــةَ وَالْأَقْــــرَعِ
فَمَــــا
كَــانَ بَدْرٌ وَلَا حَابِسٌ * * * يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا
كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا * * * وَمَـنْ تَخْفِضِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ
قَالَ:
«فَأَتَمَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةً».
قال ابن
الجوزي رحمه الله في كشف المشكل من حديث الصحيحين(2/188): قَول الْعَبَّاس:
أَتجْعَلُ نَهْبي وَنهب العبيد. العبيد اسْم فرسه. وَقَوله وَمَا كَانَ حصن وَلَا
حَابِس. يَعْنِي أَبَوي عُيَيْنَة والأقرع، فعيينة بن حصن، والأقرع بن حَابِس.
ويفوق بِمَعْنى يرْتَفع. فَالْمَعْنى: مَا كَانَ أبي دون أبويهما. وَلَا أَنا
دونهمَا، وَكَأَنَّهُ ضجَّ خوفًا من نقص مرتبته لَا لأجل المَال، وَلِهَذَا قَالَ:
وَمن تخْفض الْيَوْم لَا يرفع.
وغنائمُ
حنين قد أخبر بها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال:«تِلْكَ غَنِيمَةُ
الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ...» وقد جاءوا بنسائهم وإبلهم ونَعمهم وكانت
غنيمةً للمسلمين إلا أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَسَلَّمَ منَّ على هوازن وردَّ عليهم ذراريَهم.
و لما قسم
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الغنائم لم يُعطِ الأنصارَ شيئًا لأن النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم كان يتألف بالعطاء.أخرج البخاري (4337)ومسلم(1059)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ
حُنَيْنٍ، أَقْبَلَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ وَغَيْرُهُمْ بِنَعَمِهِمْ
وَذَرَارِيِّهِمْ، وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةُ
آلاَفٍ، وَمِنَ الطُّلَقَاءِ، فَأَدْبَرُوا عَنْهُ حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ،
فَنَادَى يَوْمَئِذٍ نِدَاءَيْنِ لَمْ يَخْلِطْ بَيْنَهُمَا، التَفَتَ عَنْ
يَمِينِهِ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ» . قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ، ثُمَّ التَفَتَ عَنْ يَسَارِهِ فَقَالَ: «يَا
مَعْشَرَ الأَنْصَارِ» قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ نَحْنُ
مَعَكَ، وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ فَنَزَلَ فَقَالَ: «أَنَا عَبْدُ اللَّهِ
وَرَسُولُهُ» . فَانْهَزَمَ المُشْرِكُونَ، فَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ غَنَائِمَ
كَثِيرَةً، فَقَسَمَ فِي المُهَاجِرِينَ وَالطُّلَقَاءِ وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ
شَيْئًا، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: إِذَا كَانَتْ شَدِيدَةٌ فَنَحْنُ نُدْعَى،
وَيُعْطَى الغَنِيمَةَ غَيْرُنَا، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ،
فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ» فَسَكَتُوا،
فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلاَ تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ
بِالدُّنْيَا، وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ تَحُوزُونَهُ إِلَى بُيُوتِكُمْ»
قَالُوا: بَلَى، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ
سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا، وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا، لَأَخَذْتُ شِعْبَ
الأَنْصَارِ».وَقَالَ هِشَامٌ -بن زيد الراوي عن أنس هذا الحديث-: قُلْتُ: يَا
أَبَا حَمْزَةَ وَأَنْتَ شَاهِدٌ ذَاكَ قَالَ: «وَأَيْنَ أَغِيبُ عَنْهُ».
وتخصيص
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ بالعطاء ،هذا للتألف
والمصلحة، وفيه دليل على جواز ذلك أن يخص بعض المقاتلين بالعطاء أو يعطي بعضهم أكثر
من بعض حسب المصلحة.
(وطعن ذو الخويصرة
التميمي، واسمه حرقوص ـ فيما قيل ـ على النبي صلى الله عليه وسلم في قسمته تلك،
وصفح عنه صلى الله عليه وسلم وحلُم، بعد ما قال له بعض الأمراء: ألا نضرب عنقه؟
فقال: لا.
ثم قال: «إنه سيخرج من
ضئضئ هذا قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في
قتلهم أجراً لمن قتلهم»).
ثم ذكر
الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ طعن ذي الخويصرة في قسمة النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ وقال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله.
وهذه أول
بدعة وقعت بدعة الخوارج.
والحديث
في البخاري (7423) ومسلم (1064) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ:
بُعِثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذُهَيْبَةٍ،
فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ أَبِي
نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ وَهُوَ بِاليَمَنِ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذُهَيْبَةٍ فِي تُرْبَتِهَا،
فَقَسَمَهَا بَيْنَ الأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الحَنْظَلِيِّ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي
مُجَاشِعٍ، وَبَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الفَزَارِيِّ وَبَيْنَ عَلْقَمَةَ
بْنِ عُلاَثَةَ العَامِرِيِّ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي كِلاَبٍ وَبَيْنَ زَيْدِ
الخَيْلِ الطَّائِيِّ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ، فَتَغَيَّظَتْ قُرَيْشٌ
وَالأَنْصَارُ فَقَالُوا: يُعْطِيهِ صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ، وَيَدَعُنَا قَالَ:
«إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ»، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ العَيْنَيْنِ، نَاتِئُ
الجَبِينِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الوَجْنَتَيْنِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ،
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اتَّقِ اللَّهَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «فَمَنْ يُطِيعُ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُهُ، فَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ
الأَرْضِ، وَلاَ تَأْمَنُونِي»، فَسَأَلَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ قَتْلَهُ، أُرَاهُ
خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ، فَمَنَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ
ضِئْضِئِ هَذَا، قَوْمًا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ،
يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ
أَهْلَ الإِسْلاَمِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ
لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ».
(واستعمل صلى الله عليه وسلم مالك بن عوف النصري
على من أسلم من قومه، وكان قد أسلم وحسن إسلامه، وامتدح رسول الله صلى الله عليه
وسلم في قصيدة ذكرها ابن إسحاق).
الهداية
بيد الله مالك بن عوف هو الذي جمع الناس والقبائل في غزوة حنين ،وكان سيدَهم ثم أسلم
بعد ذلك وحسُن إسلامه.
(واعتمر صلى الله عليه
وسلم من الجعرانة ودخل مكة، فلما قضى عمرته ارتحل إلى المدينة، وأقام للناس الحج
عامئذ عتاب بن أسيد رضي الله عنه، فكان أول من حج بالناس من أمراء المسلمين).
فيه دليل
لمن قال إن الإحرام بالعمرة لمن يكون داخلًا إلى مكة فلم يُنقل عن النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ولا عن صحابته أنهم خرجوا من مكة
لأجل الإحرام بالعمرة ثم العودة إلى مكة لأداء العمرة وهم أشد الناس مسابقة وحرصًا
على الخير، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية ،وتلميذه ابن القيم رَحِمَهُا اللَّهُ
وآخرين، والله أعلم.
النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ اعتمر أربع عمر وما خرج من مكة
إلى الحِلِّ ولا صحابته لأجل الإحرام بالعمرة .
وهذه بعض النقولات عن شيخِ
الإسلام في هذه المسألة
سُئِلَ شيخُ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (26/249)عن:
أيُّهُمَا أَفْضَلُ لِمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ؟
أَوْ الْخُرُوجُ إلَى الْحِلِّ لِيَعْتَمِرَ مِنْهُ وَيَعُودَ؟
فقال :
فَأَمَّا كَوْنُ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ أَفْضَلَ مِنْ الْعُمْرَةِ لِمَنْ كَانَ
بِمَكَّةَ فَهَذَا مِمَّا لَا يَسْتَرِيبُ فِيهِ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِسُنَّةِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ
وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا .
وَذَلِكَ أَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ عِبَادَةِ أَهْلِ مَكَّةَ .
وَذَلِكَ أَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ عِبَادَةِ أَهْلِ مَكَّةَ .
أَعْنِي مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ مُسْتَوْطِنًا أَوْ غَيْرَ مُسْتَوْطِنٍ
وَمِنْ عِبَادَاتِهِمْ الدَّائِمَةِ الرَّاتِبَةِ الَّتِي امْتَازُوا بِهَا عَلَى
سَائِرِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَمَا زَالَ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ - يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ فِي كُلّ وَقْتٍ وَيُكْثِرُونَ ذَلِكَ.
وقال رحمه
الله(26/256): فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِين كَانُوا بِمَكَّةَ مِنْ حِينِ
بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ إذَا
كَانُوا بِمَكَّةَ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَمِرُونَ مِنْ مَكَّةَ.
بَلْ كَانُوا يَطُوفُونَ
وَيَحُجُّونَ مِنْ الْعَامِ إلَى الْعَامِ .
وَكَانُوا يَطُوفُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ غَيْرِ اعْتِمَارٍ،كَانَ
هَذَا مِمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ :
أَنَّ الْمَشْرُوعَ لِأَهْلِ مَكَّةَ إنَّمَا هُوَ الطَّوَافُ وَأَنَّ
ذَلِكَ هُوَ الْأَفْضَلُ لَهُمْ مِنْ الْخُرُوجِ لِلْعُمْرَةِ إذْ مِنْ
الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَتَّفِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ عَلَى عَهْدِهِ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْمَفْضُولِ
وِتْرِك الْأَفْضَلِ فَلَا يَفْعَلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ الْأَفْضَلَ وَلَا يُرَغِّبُهُمْ
فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ
مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ.
وقال رحمه
الله (26/45): وَأَمَّا الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ فَكَثْرَةُ الطَّوَافِ
بِالْبَيْتِ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ الْعُمْرَةِ الْمَكِّيَّةِ كَمَا كَانَ
الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ إذَا كَانُوا مُقِيمِينَ بِمَكَّةَ كَانُوا
يَسْتَكْثِرُونَ مِنْ الطَّوَافِ وَلَا يَعْتَمِرُونَ عُمْرَةً مَكِّيَّةً .
وقال شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمه الله رَحِمَهُ اللَّهُ في «مجموع الفتاوى» (26/289): فَهَذَا
لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَا أَمَرَ بِهِ هُوَ - وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ وَلَا أَحَدٌ
مِنْ صَحَابَتِهِ.اهـ.
وهذا
أيضاً ما علمناه عن والدي الشيخ مقبل رحمه الله :أنَّه لا يخرج من مكة إلى الحِل
لقصد العمرة ولكن إذا خرج إلى الحِلِّ لأمر لا بأس أن يرجع ويؤدي عمرة اهـ .
أما إذن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
لعائشة بالخروج من مكة إلى التنعيم لتحرم بالعمرة فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان ليِّنًا مع أهله فقد قالت له يا رسول الله أيرجع
الناس بنسكين وأرجع بنسك واحد فأمر أخاها عبدالرحمن أن يخرج معها إلى التنعيم . وفي صحيح مسلم (1213) من حديث جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنهما ـ في قصة حجة أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا سَهْلًا، إِذَا هَوِيَتِ الشَّيْءَ تَابَعَهَا عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَهَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَأَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مِنَ التَّنْعِيمِ. (
سهلاًأي لينًا.
الذين
قالوا بالخروج أخذوا بعُمومات في الباب في الحث على العمرة وفضل العمرة وأنها من
مكفرات الذنوب وسبب للرزق منها: ما جاء في «صحيح البخاري» (1773) عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا،
وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ».
وعند
النسائي في «سننه» (2630)، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ،
فَإِنَّهُمَا: يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ، وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ
خَبَثَ الْحَدِيدِ» والحديث في «الصحيح المسند» (1/338) لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ.
وشيخ الإسلام وابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ يحتجان:أن الصحابة أشد مسابقة على الخير وما فعلوا ذلك .
قريب من
هذه المسألة:المصافحة عند الخروج من عادات كثير من الناس. سألت الوالد رحمه الله عن
ذلك: فقال لم يفعله الصحابة وهم أشدُّ حبًّا لبعضهم البعض منا. وهذا نفس المسألة
السابقة.
نكون
انتهينا، والحمد لله.