بسم الله الرحمن الرحيم
*************************
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن
بردزبه البخاري رحمه الله:
7441- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ،
حَدَّثَنِي عَمِّي، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَرْسَلَ إِلَى الأَنْصَارِ، فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ وَقَالَ لَهُمْ:
«اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنِّي عَلَى الحَوْضِ».
*************************
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) الزهري.
(عَنْ صَالِحٍ)
هو
ابن كيسان، ورواية صالح بن كيسان من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ فصالح بن كيسان
أكبر من ابن شهاب بأربع سنين.
-
وهذا الحديث له سبب ورود. روى البخاري في «صحيحه» (3147) عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ
نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ مَا أَفَاءَ، فَطَفِقَ يُعْطِي رِجَالًا مِنْ
قُرَيْشٍ المِائَةَ مِنَ الإِبِلِ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَدَعُنَا، وَسُيُوفُنَا
تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، قَالَ أَنَسٌ: فَحُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَقَالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الأَنْصَارِ، فَجَمَعَهُمْ
فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ أَحَدًا غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا
اجْتَمَعُوا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
«مَا كَانَ حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ». قَالَ لَهُ فُقَهَاؤُهُمْ: أَمَّا ذَوُو
آرَائِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا أُنَاسٌ
مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُعْطِي قُرَيْشًا، وَيَتْرُكُ الأَنْصَارَ،
وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ، أَمَا
تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأَمْوَالِ، وَتَرْجِعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ
بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَاللَّهِ مَا
تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ»، قَالُوا: بَلَى يَا
رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ رَضِينَا، فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي
أَثَرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الحَوْضِ». قَالَ أَنَسٌ فَلَمْ نَصْبِرْ.
(الأثرة)
الانفراد بالشيء عمن له حق فيه.
وفي هذا الحديث من الفوائد:
علم من أعلام النبوة فقد وقع ما أخبر به
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من وجود الأثرة على الأنصار.
- الأمر بالصبر على جور الولاة (اصْبِرُوا).
- وفيه أن الصبر على جور الولاة من أسباب
الشرب من حوض النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «فَإِنِّي عَلَى الحَوْضِ».
والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتقدم
الناس إلى الحوض في عرصات يوم القيامة كالمُهيئ لهم .روى البخاري (3596) ومسلم (2296) عَنْ عُقْبَةَ
بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى
عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَى المَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المِنْبَرِ
فَقَالَ: «إِنِّي فَرَطُكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، إِنِّي وَاللَّهِ لَأَنْظُرُ
إِلَى حَوْضِي الآنَ، وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ خَزَائِنَ مَفَاتِيحِ الأَرْضِ، وَإِنِّي
وَاللَّهِ مَا أَخَافُ بَعْدِي أَنْ تُشْرِكُوا، وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَنَافَسُوا
فِيهَا». وهذا أحد المواضع التي لا يتخطاها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الموقف
.روى الترمذي في «سننه» (2433) من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْفَعَ لِي يَوْمَ
القِيَامَةِ، فَقَالَ: «أَنَا فَاعِلٌ» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ
أَطْلُبُكَ؟ قَالَ: «اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ» . قَالَ:
قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ؟ قَالَ: «فَاطْلُبْنِي عِنْدَ المِيزَانِ»
. قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ المِيزَانِ؟
قَالَ: «فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الحَوْضِ فَإِنِّي لَا أُخْطِئُ هَذِهِ الثَّلَاثَ المَوَاطِنَ».
وفي هذا الحديث إشكال لأنه ذكر أول ما
يطلبه عند الصراط، والصراط هو آخر ما يكون فما بعده إلا جنة أو نار. فمن أهل العلم
من قال: لا يراد من الحديث الترتيب، ومنهم من قال: الصراط صراطان يوم القيامة، والله
أعلم.
- الشاهد
من الحديث «حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ» الإيمان برؤية الله عز وجل في الآخرة.
وقول
أنس: (فَلَمْ نَصْبِرْ) هذا من تواضع أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد سألت الوالد
الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله عن قول أنس هذا فقال: لم ينقل عن الأنصار أنهم خرجوا
على الولاة، ولكن لعله حصل منهم بعض التضجر.اهـ.
وقريب
من هذا ما في «صحيح البخاري» (4170) عَنِ العَلاَءِ بْنِ المُسَيِّبِ،
عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَقِيتُ البَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
فَقُلْتُ: «طُوبَى لَكَ، صَحِبْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبَايَعْتَهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّكَ لاَ تَدْرِي
مَا أَحْدَثْنَا بَعْدَهُ».
قال
الحافظ في الفتح (7/450)
: قَوْلُهُ (إِنَّكَ
لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثْنَاهُ بَعْدَهُ) يُشِيرُ إِلَى مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ
الْحُرُوبِ وَغَيْرِهَا فَخَافَ غَائِلَةَ ذَلِكَ وَذَلِكَ مِنْ كَمَالِ فَضْلِهِ
.اهـ.
وقد
استدل بهذا أعداء الصحابة رضوان الله عليهم، وهم الرافضة على أن الصحابة غيَّرُوا
وبدَّلُوا. وهذا قول باطل، فقول أنس بن مالك: (فَلَمْ نَصْبِرْ) لا يدل على الخروج
ولا على التبديل، وهكذا قول البراء رضي الله عنهما،ولكنه يدل على تواضعهم وخوفهم
الشديد من الذنوب ،روى البخاري (6308)عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا:«إِنَّ
المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ،
وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ:
بِهِ، هَكَذَا».
وقد
كان أنس بن مالك رضي الله عنه في زمن الحجاج بن يوسف الظالم. والحجاج سفاك للدماء،
ويؤذي الصحابة وخيار المسلمين من العلماء وغيرهم. وهو الذي قتل عبد الله بن الزبير
رضي الله عنه وصلَبه، جاء في «صحيح مسلم» (2545) عَنْ أَبِي نَوْفَلٍ، رَأَيْتُ
عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى عَقَبَةِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَجَعَلَتْ
قُرَيْشٌ تَمُرُّ عَلَيْهِ، وَالنَّاسُ حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ
عُمَرَ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ، أَبَا خُبَيْبٍ
السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ أَمَا
وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ
أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا
وَاللهِ إِنْ كُنْتَ، مَا عَلِمْتُ، صَوَّامًا، قَوَّامًا، وَصُولًا لِلرَّحِمِ،
أَمَا وَاللهِ لَأُمَّةٌ أَنْتَ أَشَرُّهَا لَأُمَّةٌ خَيْرٌ، ثُمَّ نَفَذَ عَبْدُ
اللهِ بْنُ عُمَرَ، فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ مَوْقِفُ عَبْدِ اللهِ وَقَوْلُهُ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَأُنْزِلَ عَنْ جِذْعِهِ، فَأُلْقِيَ فِي قُبُورِ
الْيَهُودِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ،
فَأَبَتْ أَنْ تَأْتِيَهُ، فَأَعَادَ عَلَيْهَا الرَّسُولَ: لَتَأْتِيَنِّي أَوْ
لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكِ مَنْ يَسْحَبُكِ بِقُرُونِكِ، قَالَ: فَأَبَتْ وَقَالَتْ:
وَاللهِ لَا آتِيكَ حَتَّى تَبْعَثَ إِلَيَّ مَنْ يَسْحَبُنِي بِقُرُونِي، قَالَ:
فَقَالَ: أَرُونِي سِبْتَيَّ فَأَخَذَ نَعْلَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَوَذَّفُ،
حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي صَنَعْتُ بِعَدُوِّ اللهِ؟
قَالَتْ: رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ، وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ
آخِرَتَكَ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ لَهُ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ
أَنَا، وَاللهِ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكُنْتُ أَرْفَعُ بِهِ
طَعَامَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَعَامَ أَبِي بَكْرٍ
مِنَ الدَّوَابِّ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَنِطَاقُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا
تَسْتَغْنِي عَنْهُ، أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَدَّثَنَا، «أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا» فَأَمَّا الْكَذَّابُ
فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ، قَالَ:
فَقَامَ عَنْهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا.
(أَمَا
وَاللهِ إِنْ كُنْتَ، مَا عَلِمْتُ، صَوَّامًا، قَوَّامًا، وَصُولًا لِلرَّحِمِ،
أَمَا وَاللهِ لَأُمَّةٌ أَنْتَ أَشَرُّهَا لَأُمَّةٌ خَيْرٌ)
وهذا
من شجاعة عبد الله بن عمر رضي الله عنه فإنه يعلم أن كلامه سيبلغ الحجاج، وقال
الحق وصدع به، وأثنى بهذا الثناء الجميل على عبد الله بن الزبير.
(بِقُرُونِكِ)
أي: بضفائر شعرها.
(وَقَالَتْ:
وَاللهِ لَا آتِيكَ حَتَّى تَبْعَثَ إِلَيَّ مَنْ يَسْحَبُنِي بِقُرُونِي) وهذا من
ثباتها وشجاعتها.
(أَرُونِي
سِبْتَيَّ) وهي النعال السبتية التي لا شعر لها.
(فَقَامَ
عَنْهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا) قد كان يهددها فلما ذكرت له الموعظة المؤثِّرة صرفه
الله فانصرف ولم يقل شيئًا.
(أَنَّ
فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا) المختار بن أبي عبيد الثقفي.
(الْمُبِيرُ)
الهالك، تقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: (فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ)
أي: لا أظنك إلا هو.
والحجاج
بن يوسف الثقفي الظالم هو الذي قتل سعيد بن جبير ظلمًا وعدوانًا والناس أحوج ما
يكون إلى علمه.
قال
الحافظ ابن كثير رحمه الله في «البداية والنهاية» (9/115): وذكر عن الإمام أحمد أَنَّهُ قَالَ:
قُتِلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ
مُحْتَاجٌ - أَوْ قَالَ مُفْتَقِرٌ - إِلَى عِلْمِهِ. اهـ.
*************************
قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله:
7442- حَدَّثَنِي ثَابِتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا
لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ
رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الحَقُّ، وَقَوْلُكَ الحَقُّ،
وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ الحَقُّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ،
وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ
تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ خَاصَمْتُ، وَبِكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا
قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ
بِهِ مِنِّي، لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ
قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ، «قَيَّامُ»، وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: «القَيُّومُ القَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»، وَقَرَأَ عُمَرُ،
القَيَّامُ، «وَكِلاَهُمَا مَدْحٌ».
*************************
(عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز.
(عَنْ طَاوُسٍ) ابن
كيسان.
(قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو
الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ، «قَيَّامُ»)
يعني
بدل قيَّم السماوات.
والحديث
تقدم في كتاب التوحيد (7385).
*************************
قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله:
7443- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو
أُسَامَةَ، حَدَّثَنِي الأَعْمَشُ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْكُمْ
مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ
تُرْجُمَانٌ، وَلاَ حِجَابٌ يَحْجُبُهُ».
*************************
(حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى) القطان.
(حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة.
وهذا
الحديث مختصر تتمته عند البخاري «كِتَابُ التَّوْحِيدِ» (7512)ومسلم (1016)«...فَيَنْظُرُ
أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ
أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ
فَلاَ يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ
بِشِقِّ تَمْرَةٍ» قَالَ الأَعْمَشُ: وَحَدَّثَنِي عَمْرُو
بْنُ مُرَّةَ، عَنْ خَيْثَمَةَ، مِثْلَهُ، وَزَادَ فِيهِ: «وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ».
الترجمان:
التُّرْجُمَان بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ: هُوَ الَّذِي يُتَرْجِمُ الْكَلَامَ، أَيْ يَنْقُله
مِنْ لُغَة إِلَى لُغَةٍ أُخْرَى. وَالْجَمْعُ التَّرَاجِم. النهاية
مادة (تَرْجَمَ).
- في
هذا الحديث إثبات صفة الكلام لله عز وجل.
-
وفيه الإيمان برؤية الله عز وجل في الآخرة، فالله سبحانه يكلم العبد ويتولى حسابه
ويقرره بذنوبه من غير واسطة ولا حجاب.
-
وفيه أن الإنسان يرى أعمالَه التي قدمها من خير أو شر (فَيَنْظُرُ
أَيْمَنَ مِنْهُ...) يلتفت يمينًا لا يرى إلا ما قدم ويلتفت يسارًا فلا يرى
إلا ما قدم من الأعمال، قال سبحانه وتعالى: ﴿يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا
قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾ [القيامة:13]. وقال سبحانه: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ
مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ
أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران:30]. وقال سبحانه: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ
خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾
[البقرة:110]. وقال سبحانه: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا
يَرَهُ (8)﴾ [القارعة]. يجد أعمالًا قد نسيها قد غطاها
الدهر، يجد أعمالًا لا تخطر بباله، قال سبحانه: ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ
يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾
[الزمر:47]. وقال سبحانه: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا
فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المجادلة:6].
تَذَكَّـــــرْ یَـــوْمَ تَأْتِي اللهَ فَــرْدًا *** وَقَدْ نُصِبَتْ مَـوَازِیْنُ الْقَضَاءِ
وَھُتِّكَتِ السُّتُوْرُ عَنِ الْمَعَاصِي *** وَجَاءَ الذَّنْبُ مُنْكَشِفَ الْغِطَاءِ
مرجع
البيتين «التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة» (725) للقرطبي.
الذنوب
التي كان يخفيها والتي قد نسيها يجدها أمامه.
-
ويستفاد الحث على الأعمال الصالحة، واجتناب المعاصي.
(وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلَّا النَّارَ
تِلْقَاءَ وَجْهِهِ)
فيه الإيمان بوجود النار في عرصات يوم القيامة ينظر أمامه فلا يرى إلا النار،
والعياذ بالله.
يقول
الله عز وجل ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ
يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي
﴾ [الفجر]. ولابد لكل من لم يستقم على الدنيا
أن يستقيم في الآخرة ويستجيب في الآخرة، استقامة واستجابة اضطرارية لا تنفع ﴿ يَوْمَئِذٍ
يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾. وقد عاش من العمر ما عاش، ومن فرط
في حياته فقد خسر الأولى والأخرى. فيوم القيامة يتذكر سعيه وما قدمه.يقول الله عز
وجل: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى
(34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا
سَعَى (35)﴾ [النازعات]. في الدنيا ما كان يفكر، شغلته
الملذات والشهوات. وأفاق في وقت لا ينفعه لهذا الله عز وجل يقول: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا
لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ
اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ
مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ
بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)﴾
[الزمر].
(فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) ربط بين الاعتقاد والعمل. فالاعتقاد
ينبغي أن يجرنا إلى المسابقة والمجاهدة في الأعمال الصالحة.
وفيه
:العمل بالأسباب التي تقي من النار.
*************************
قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله:
7444- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا،
وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ القَوْمِ
وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ
فِي جَنَّةِ عَدْنٍ».
*************************
(حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) ابن
المديني.
(عَنْ أَبِي عِمْرَانَ) الجوني، عبد الملك بن حبيب.
قوله
«جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ...» جاء في «سنن
الترمذي» (2526) و«مسند أحمد» (8043) واللفظ له عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «...قَالَ:
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنَا عَنِ الْجَنَّةِ، مَا بِنَاؤُهَا؟
قَالَ: لَبِنَةُ ذَهَبٍ وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ، وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ،
وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ، مَنْ
يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ وَلَا يَبْأَسُ، وَيَخْلُدُ وَلَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى
ثِيَابُهُ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ».
ويجمع
بين الحديثين أن بناء الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة،وهذا في غاية الجمال. وما في
داخل الجنة من الآنية وغيرها يراد به حديث«جَنَّتَانِ
مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ،
آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا...» وهذا ذكره الحافظ في « فتح الباري» (13/432) في شرحه
لحديث الباب قال: وَيُجْمَعُ بِأَنَّ الْأَوَّلَ صِفَةُ مَا فِي كُلِّ جَنَّةٍ
مِنْ آنِيَةٍ وَغَيْرِهَا وَالثَّانِي صِفَةُ حَوَائِطِ الْجِنَانِ كُلِّهَا.
-
وفيه إثبات صفة الكبرياء لله عز وجل. وفي «صحيح مسلم» (2620) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،
وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«الْعِزُّ إِزَارُهُ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ يُنَازِعُنِي
عَذَّبْتُهُ».
فهاتان
الصفتان صفة العزة وصفة الكبرياء من خصائص الله عز وجل، فلا يجوز للمخلوق أن يتكبر
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا
لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص:83]. ويقول سبحانه: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ [الزمر:60]. والمراد بصفة العزة التي لا يُنَازَع
الله فيها العزة المطلقة التامة، هذه من خصائص الله سبحانه، وقد أثبت الله العزة
لمن استقام على دينه، وأثبتها لرسوله، قال سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون:8]، ولكنها عزة مقيدة ليست عزة مطلقة
تامة.
ومعنى
الكبرياء قال ابن قتيبة في «تفسير غريب القرآن» (ص:18): «كِبْرياءُ اللهِ»: شَرَفُه. وهو من
«تكبَّر»: إذا أعلا نفسَه. اهـ.
ومن
أسماء الله عز وجل الكبير ﴿عَالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾ [الرعد:9].
-
وفيه إثبات صفة الوجه لله عز وجل «إِلَّا رِدَاءُ
الكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ». قال البيهقي رحمه الله في
«الأسماء والصفات» (2/82): يُرِيدُ بِهِ صِفَةَ
الْكِبْرِيَاءِ. فَهُوَ بِكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ لَا يُرِيدُ أَنْ يَرَاهُ
أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ بَعْدَ رُؤْيَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يَأْذَنَ
لَهُمْ بِدُخُولِ جَنَّةِ عَدْنٍ، فَإِذَا دَخَلُوهَا أَرَادَ أَنْ يَرَوْهَ
فَيَرَوْهُ وَهُمْ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.
*************************
قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله:
7445- حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ المَلِكِ بْنُ أَعْيَنَ، وَجَامِعُ بْنُ أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ أَبِي
وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ
بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لاَ
خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران:77] الآيَةَ.
*************************
(الحُمَيْدِيُّ) عبد الله بن الزبير.
(حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) ابن عيينة.
(عَنْ أَبِي وَائِلٍ) شقيق بن سلمة.
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) ابن مسعود رضي الله عنه.
- في
هذا الحديث التغليظ والتشديد في اقتطاع مال الأخ المسلم بالأيمان الكاذبة, وهذه
اليمين تسمى يمين الغموس، وهي من الكبائر. ثبت في «صحيح البخاري» (6920) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«الكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ
النَّفْسِ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ».
ولِعِظَمِ
اليمين الغموس وخطرها ليس فيها كفارة ولكن الواجب عليه أن يبادر بالتوبة والرجوع
على الله عز وجل.
(لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ)
ومن
لقي الله وهو عليه غضبان فقد عرض نفسه للهلكة وللعذاب وحرمان الجنة، روى مسلم في
«صحيحه» (137) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ
مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ
الْجَنَّةَ» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ
اللهِ؟ قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ».
(وَإِنْ
قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ) يعني عود من أراك.
وهذا
فيه حرمة مال المسلم. وهو من أدلة الوعيد، من ارتكب شيئًا منها من الموحدين فهو
تحت مشيئة الله إن شاء عذبه ثم مآله إلى الجنة، وإن شاء عفا عنه ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ
افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾
[النساء:48].
وفيه
شبهة للخوارج والمعتزلة ،وقد أخذوا بطرف من الأدلة وهي أدلة الوعيد وتركوا أدلة
الرجاء.
(ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لاَ
خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران:77] الآيَةَ.)
(يَشْتَرُونَ)
أي: يبدلون بثمن قليل وبثمن زائل, (لاَ خَلاَقَ) لا نصيب لهم.
-
وفيه إثبات صفة الغضب لله عز وجل.
-من
الأدلة على أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يكن يستعيذ عند الاستدلال
بالآية .
*************************
قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله:
7446- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ
اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى
سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ
حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ العَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ
مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ:
اليَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ».
*************************
(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) الجعفي.
(حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) ابن عيينة.
(عَنْ عَمْرٍو) ابن
دينار.
وقد
لازم سفيان بن عيينة شيخه عمرًا مدة طويلة فكان عمرو قد سقط لحيه ،ولكن لطول
ملازمة سفيان بن عيينة له كان يفهم كلامه.
أخرج
الفسوي في المعرفة والتاريخ (3/157) من طريق سُفيان : أدركنا عَمْرو بن دينار وقد
سقطت أسنانه ما بقي له إلاَّ نابه ، فلولا أنا أطلنا مجالسته لم نفهم كلامه .
(عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان السمان.
(لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى)بالبناء للفاعل .وفي
رواية للبخاري (7212) (فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ،
فَأَخَذَهَا، وَلَمْ يُعْطَ بِهَا ).قال الحافظ في فتح الباري (7212):وَقَعَ مَضْبُوطًا
بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الطَّاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِي بَعْضِهَا
بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالطَّاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَالضَّمِيرُ لِلْحَالِفِ
وَهِيَ أَرْجَحُ .اهـ.
فعلى
فتح الهمزة والطاء.قال القاري في مرقاة المفاتيح (5/1909): يقول للمشتري اشتريتُ هذا
بمائة دينار والله ليظن المشتري أن ذلك المتاع يساوي مائة دينار أو أكثر فيرغب في شرائه
.اهـ.
وعلى البناء للمجهول(أُعْطِي) أي يحلف البائع للمشتري أنه قد أُعطٍيَ في هذه السلعة مقدار كذا.
في
هذا الحديث الترهيب من هذه الثلاثة الأمور.
أحدها:
الحلف على ترويج السلعة بالأيمان الكاذبة ليرَغِّب المشتري في الشراء.
الثاني:
يحلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم. ويستفاد من هذا تغليظ
اليمين بعد العصر لشرف الزمان. وفي«صحيح مسلم» (105) من حديث أَبِي ذَرٍّ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ
اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ» قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثَلَاثَ مِرَارًا، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ».
وهذا عام سواء حلف بعد العصر أو في غيره ،ولكن اليمين أغلظ بعد العصر.
الثالث:
رجل منع فضل ماءٍ، والفضلُ الشيء الزائد. يمنعه من ابن السبيل كما في «صحيح
البخاري» (7212) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله
عنه « " ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ يَمْنَعُ مِنْهُ
ابْنَ السَّبِيلِ...». (ابْن السَّبِيلِ) هو المسافر ،أي مسافرمحتاج ولا يعطيه،
هذا فيه الترهيب والتخويف يقول الله يوم القيامة: «اليَوْمَ
أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ».
ويستفاد
منه موعظة التجار بلزوم الصدق وعدم الإكثار من الحلف والبعد عن الغش.وروى أبوداود
في سننه(3326)عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ، قَالَ: كُنَّا فِي
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُسَمَّى السَّمَاسِرَةَ
فَمَرَّ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمَّانَا
بِاسْمٍ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ، إِنَّ
الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلْفُ، فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ».والحديث
صحيح.
وفيه
:أن صاحب الماء أولى بالماء من غيره، وأنه ليس له أن يمنع الزائد عن ابن السبيل
المحتاج.
*************************
قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله:
7447- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ،
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الزَّمَانُ
قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ،
السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ
مُتَوَالِيَاتٌ، ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحَجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ
الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ ، قُلْنَا: اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُسَمِّيهِ بِغَيْرِ
اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ ذَا الحَجَّةِ؟»، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ
هَذَا؟»، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا
أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ البَلْدَةَ؟»، قُلْنَا:
بَلَى، قَالَ: «فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟»، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،
فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ:
«أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟»، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ - قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ -
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي
شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ،
أَلاَ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ،
أَلاَ لِيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ
يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ، - فَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا
ذَكَرَهُ قَالَ: صَدَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ
قَالَ: أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ».
*************************
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى) أبو موسى العنزي.
(حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ)
ابن
عبد المجيد الثقفي، أحد الثلاثة الذين اختلطوا فلم يضر اختلاطهم، (عبد الوهاب بن
عبد المجيد الثقفي اختلط فحجبه أولاده ، جرير بن حازم، إبراهيم بن أبي العباس
اختلط فحجبه بعض أقربائه) يقول الوالد الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله: هكذا الأسرة
الطيبة تفعل.
فهؤلاء
الثلاثة ممن اختلطوا ولم يضر اختلاطهم، الإمام الذهبي رحمه الله يقول:
:
وعامة من يموت يختلط قبل موته وإنما
المضعَّف للشيخ أن يروي شيئا من اختلاطه. «الكواكب النيرات في معرفة من الرواة
الثقات» (1/81).
والاختلاط
قد يُبتلى به من له مكانة ومنزلة، ومن المحدثين من اختلط، ومنهم من استمر على
التحديث بعد اختلاطه وهذا يذهب حديثه المتقدم والمتأخر، الذي قبل الاختلاط وبعده،
ومنهم من ييسر الله له بأسرة طيبة تَرُدُّ الوافدين والراغبين في أخذ الحديث من
الشيخ فيقبلُ العلماء حديثه؛ لأنه لم يحدث بعد اختلاطه. هناك مرجع لهذا الموضوع «الكواكب
النيرات في معرفة من الرواة الثقات».
كان
الوالد الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله يقول: في المختلطين من المحدثين عبرة
للمعتبرين، بالأمس كانوا في زمرة المحدثين، وبعد ذلك صاروا في زمرة المجانين.
وكان
يحذِّر الطالب من الاغترار بالذكاء والحفظ والفهم، ويحذِّره من التعالي؛ فإن الله
قادر على أن يسلب النعمة عنه وعليه أن يقابل النعمة بالشكر.
(حَدَّثَنَا أَيُّوبُ) ابن أبي تميمة السختياني.
(عَنْ مُحَمَّدٍ)
هو ابن سيرين القائل: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ
تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ. أخرجه الإمام مسلم في مقدمة«صحيحه» (1/14) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ.
وكان
رحمه الله آية في التعبير. أما الكتاب الذي ينسب إلى محمد بن سيرين في التعبير،
أفادنا الوالد الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله أنه لا يثبت نسبته إليه.
(عَنِ أَبِي بَكْرَةَ) نُفيع بن الحارث.
(ذُو القَعْدَةِ) بفتح
القاف، (وَذُو الحِجَّةِ) بكسر الحاء هذه هي
اللغة المشهورة.
قال
النووي في شرح صحيح مسلم (11/168): أَمَّا ذُو الْقَعْدَةِ فَبِفَتْحِ الْقَافِ
وَذُو الْحِجَّةِ بِكَسْرِ الْحَاءِ هَذِهِ اللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ وَيَجُوزُ
فِي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ كَسْرُ الْقَافِ وَفَتْحُ الْحَاءِ. اهـ
ويراجع:
«تهذيب الأسماء واللغات» للنووي.
(قَالَ: «أَلَيْسَ البَلْدَةَ؟») البَلْدَةَ
نصبت لأنها خبر ليس.
(وَأَحْسِبُهُ) أظنه.
(وَأَعْرَاضَكُمْ) العرض: موضع المدح والذم من
الإنسان.
في
هذا الحديث الرد على المشركين الذين كانوا يستحلون بعض الأشهر الحرم ويقدمونها أو
يؤخرونها، إذا أرادوا البغي ووافق شهر محرم، أخروا شهر محرم إلى صفر وهكذا.
فالنبي
صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «الزَّمَانُ قَدْ
اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ، السَّنَةُ
اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا...»
أي: عاد على ما كان عليه أن السنة اثنا عشر شهرًا، ومنها أربعة حرم لا تتغير ولا تتبدل .قال تعالى {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)}. قال الخطابي رحمه الله في معالم السنن (2/206):ومعنى النسيء تأخير رجب إلى شعبان والمحرم إلى صفر وأصله مأخوذ من نسأت الشيء إذا أخرته ومنه النسيئة في البيع، وكان من جملة ما يعتقدونه من الدين تعظيم هذه الأشهر الحرم فكانوا يتحرجون فيها عن القتال وعن سفك الدماء ويأمن بعضهم بعضا إلى أن تنصرم هذه الأشهر ويخرجوا إلى أشهر الحل فكان أكثرهم يتمسكون بذلك ولا يستحلون القتال فيها، وكان قبائل منهم يستبيحونها فإذا قاتلوا في شهر حرام حرموا مكانه شهرا آخر من أشهر الحل ويقولون نسأنا الشهر واستمر ذلك بهم حتى اختلط ذلك عليهم وخرج حسابه من أيديهم فكانوا ربما يحجون في بعض السنين في شهر ويحجون من قابل في شهرغيره إلى أن كان العام الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصادف حجهم شهر الحج المشروع وهو ذو الحجة فوقف بعرفة اليوم التاسع منه ثم خطبهم فأعلمهم أنه عاد الأمر إلى الأصل الذي وضع الله حساب الأشهر عليه يوم خلق السموات والأرض وأمرهم بالمحافظة عليه لئلا تتغير أو تتبدل فيما يستأنف من الأيام فهذا تفسيره ومعناه.اهـ المراد.
والأشهر
الحرم (ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحَجَّةِ، مُحَرَّمُ، رَجَبُ مُضَرَ)
وأشهر
الإحرام (شوال، ذو القعدة، وذو الحجة)
-
وفيه من الفوائد إلقاء العلم بصيغة سؤال تنبيهًا للسامع.
-
وفيه حُسنُ أدب الصحابة رضوان الله عليهم، فإنهم كانوا يعلمون أنه شهر ذي الحجة،
وأنه في بلد حرام وفي يوم النحر، ولكنهم خشوا أن يكون جاء في الشرع ما يغير ذلك
فلهذا قالوا: الله ورسوله أعلم.
(البَلْدَةَ) ويقال البلد الحرام بالتأنيث والتذكير.
-
وفيه تأكيد حرمة دم المسلم وماله وعرضه . فالمسلم معصوم الدم والمال والعرض ،وهذا
من فضائل الإسلام، وهو من الأدلة على حفظ اللسان وعدم الخوض في أعراض المسلمين إلا
لمصلحة دينية فالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقولُ: «الدِّينُ
النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ
وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ». رواه مسلم في «صحيحه » (55) من حديث تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي
الله عنه.
-
وفيه الأمر بتبليغ العلم، فالحاضر يبلغ الغائب. وهذه مسؤلية في تحمل العلم ،تبليغه
ونشره، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم المحاباة في ذلك. وقد روى
أحمد في مسنده (17/61) من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ هَيْبَةُ
النَّاسِ أَنْ يَقُولَ فِي حَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ أَوْ سَمِعَهُ» قَالَ
أَبُو سَعِيدٍ: «وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ».
-
وفيه أن الناقل للعلم قد يكون أقل فهمًا من الذي يبلغه. والفهم منةً من الله
سبحانه «فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ
مَنْ سَمِعَهُ» أي: أكثر وعيًا له، والبركة من الله سبحانه وتعالى.
نكون
انتهينا من هذا الباب -بعون ربي وفضله وله الحمد والمنة -في إثبات رؤية الله عزوجل في الآخرة ،ونسأل الله لذة النظر
إلى وجه الله الكريم والشوق إلى لقائه في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة .