جديد الرسائل

الخميس، 18 مارس 2021

(45)اختصار الدرس الخامس والأربعين من دروس التبيان في آداب حملة القرآن

فِيْ آدَابِ الْقِرَاءةِ

استِحبَابِ تَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ

أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن، ومن الأدلة على هذا:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: سَمِعَتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ، يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ، يَجْهَرُ بِهِ». رَوَاهُ البخاري (7544)، ومسلم (792).

عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لَهُ: «لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ». أخرجه البخاري (5048)، ومسلم (793).

عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهمَا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ». أخرجه أبو داود (1468)، والنسائي (1015)،وهذا حديث صحيح.

عن البراء بن عازب: سَمِعَتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي الْعِشَاءِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ؛ فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ.

وقد نقل الإمام النووي إجماع العلماء على هذا، وقال ابن قدامة في «المغني» (10/162): وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ تُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّحْزِينِ وَالتَّرْتِيلِ وَالتَّحْسِينِ. اهـ.

والأصوات تختلف، فبعضها خشنة، وبعضها ناعمة، والصوت الحسن موهبة من الله، ونعمة من الله.

قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» (4/5): وَالْأَصْوَاتُ الْحَسَنَةُ نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَزِيَادَةٌ فِي الْخَلْقِ وَمِنَّةٌ. وَأَحَقُّ مَا لُبِّسَتْ هَذِهِ الْحُلَّةُ النَّفِيسَةُ وَالْمَوْهِبَةُ الْكَرِيمَةُ كِتَابَ اللَّهِ؛ فَنِعَمُ اللَّهِ إذَا صُرِفَتْ فِي الطَّاعَةِ فَقَدْ قُضِيَ بِهَا حَقُّ النِّعْمَةِ. اهـ.

ومن الأسباب التي تعين على تحسين الصوت بالقرآن:

-الترتيل: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) [المزمل].

-القراءة بالمدود، وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، روى البخاري (5046) عَنْ قَتَادَةَ، قال: سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النبي صلى الله عليه وسلم؟ فَقال: «كَانَتْ مَدًّا».

◆◇◆◇◆◇

القراءة بالألحان

أنكر أهل العلم من الألحان في القراءة:

- ما كان فيه إفراط في التمطيط والمدود وإدخال حروف ليست في القرآن وما أشبهه، وقد جاء عن الإمام أحمد أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقال لَهُ: مَا اسْمُك؟ قال: مُحَمَّدٌ. قال: أَيَسُرُّك أَنْ يُقال لَك: يَا مُوحَامَدُ؟ قال: لَا. فَقال: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَعَلَّمَ الرَّجُلُ الْأَلْحَانَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ حَرَمُهُ مِثْلَ حَرَمِ أَبِي مُوسَى. ذكره ابن قدامة رحمه الله في «المغني» (10/162).

-الألحان التي على ألحان الغناء، على إيقاعات معينة، وأوزان مخصوصة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «جامع المسائل» (3/304): وأما ما أُحدِثَ بعدَهم من تكَلُّفِ القراءةِ على ألحانِ الغناءِ فهذا يُنْهَى عنه عند جمهور العلماء؛ لأنه بدعة، ولأن ذلك فيه تشبيه القرآن بالغناء، ولأن ذلك يُورِثُ أن يَبقَى قلبُ القارئ مصروفًا إلى وزنِ اللفظ بميزان الغناءِ، لا يَتدبَّرهُ ولا يَعقِله، وأن يَبقَى المستمعون يُصغُون إليه؛ لأجل الصوتِ الملحّن كما يُصْغَى إلى الغناء، لا لأجلِ استماعِ القرآن وفهمِه وتدبُّرِه والانتفاع به. والله سبحانه أعلم. اهـ.

- منعِ التلحين بتكلف قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)﴾ [ص].

فينبغي للقراء والمقرئين أن يتنبهوا حتى لا يقعوا في المبالغة  والغلو  في تلحين القرآن.

قراءة عبد الباسط المصري

وقد كان والدي رحمه الله ينكر قراءة عبد الباسط؛ لما فيها من التمطيط المفرط والتكلف.

قال رحمه الله في «تحفة المجيب» (157): وكذلك الأخذ من المشايخ والحفظ على أيديهم، فإن لم تجد فأنصح باقتناء أشرطة القرّاء المتقنين الذين يقرءون قراءةً سليمة، ولا يمطّطون كما يصنع عبدالباسط، بل من القراء المعتدلين المتوسطين، وليست من تلك التي كرهها بعض السلف.

وقال رحمه الله في «قمع المعاند» (435): فمن الناس من لا يرفع رأسًا إلى تحسين الصوت بالقرآن، ومن الناس من يغلو كعبدالباسط، إذا سمعته يقرأ وأنت بعيد لا تدري أهذه أغنية أم هي قراءة قرآن؟! .اهـ.

 

أما الألحان الخالية من ذلك فهذا ممدوح. كما تقدم في الأدلة الحث على تحسين الصوت بالتلاوة.

 

تأثير تحسين الصوت بالتلاوة على القلوب

النفوس تتأثر بالتلحين والتطريب والترنم أكثر من القراءة بدونها.

قال ابن كثير رحمه الله في «فضائل القرآن» (195): والغرض أن المطلوب شرعًا، إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تَدَبُّرِ القرآن وتفهمه، والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة. اهـ.

وقال الحافظ في «فتح الباري»(9/72): وَلَا شَكَّ أَنَّ النُّفُوسَ تَمِيلُ إِلَى سَمَاعِ الْقِرَاءَةِ بِالتَّرَنُّمِ أَكْثَرَ مِنْ مَيْلِهَا لِمَنْ لَا يَتَرَنَّمُ؛ لِأَنَّ لِلتَّطْرِيبِ تَأْثِيرًا فِي رِقَّةِ الْقَلْبِ وَإِجْرَاءِ الدَّمْعِ. اهـ.

الحذر من مداخل الشيطان في تحسين الصوت

وليحذر القارئ عند تحسين صوته أن تكون نيته لأجل الثناء والمدح، فهذا داخل في الرياء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عَزَّ وَجَل: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» رواه مسلم(2985) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

◆◇◆◇◆◇

القراءة على الجنائز

هذا الفعل بدعة مطلقًا، سواء بالألحان المحرمة أو بالجائزة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من هديه القراءة على الأموات، فقد مات عدد كبير  من الصحابة ولم يقرأ عليهم القرآن.

والواجب التقيد بالأدلة، والحمد لله العلم نور، فقد كانت هذه البدعة منتشرة، وهكذا سائر بدع الجنائز، وقد كانوا عند تشييع الجنازة يهللون ويكبرون حتى يضعوها عن رقابهم، فلما علموا أن هذا ليس بمشروع تركوا ووقفوا مع الدليل، وهذا من السنن التي أحياها والبدع التي أماتها الله على يد والدي الشيخ مقبل رحمه الله.

◆◇◆◇◆◇

استِحبَابُ الْقِرَاءَةِ الطَّيِّبَةِ مِنْ حَسَنِ الصَّوْتِ

يدل لهذا حديث عَبْداللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قال: قال لِي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ». فَقُلْتُ: يَا رسول الله، اقْرَأْ عَلَيكَ وَعَلَيكَ أُنْزِلَ؟! قال: «إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي». فَقَرَأْتُ عَلَيهِ سُورَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى جِئْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) ﴾ [ النِّسَاءِ]، قال: «حَسْبُكَ الْآنَ». فَالْتَفَتُّ إِلَيهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. رَوَاهُ البخاري (4582)، ومسلم (800). وهذا الحديث فيه رد على من يقول: (صدق الله العظيم) عقب القراءة.

وحديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع لقراءته، وقال له: «لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» رواه مسلم (793وفي «صحيح ابن حبان»(7197) قال: «يَا رسول الله، لَوْ عَلِمْتُ مَكَانَكَ، لَحَبَّرْتُ لَكَ تَحْبِيرًا».

قال ابن الأثير رحمه الله في «النهاية»(2/326): أَيْ: حَسَّنتُ قِراءته وزَيَّنتُها. اهـ.

وفي هذا بعض الآثار عن السلف، وهو مجمعٌ عليه كما ذكر ذلك النووي رحمه الله في «التبيان».

وهذا له تأثير عجيب على القلوب، حتى إنه لوقعه في النفوس كأن الآية أول مرة يسمعها.

◆◇◆◇◆◇

حكم تحري فتح المجالس وختمها بقراءة القرآن

استحب بعض العلماء أن يستفتح مجلس حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويختم بالقراءة، كما ذكر ذلك النووي في «التبيان».

 وهذا الاستحباب استحسان في دين الله، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يفعله؛ ولهذا يقول الشيخ ابن عثيمين في التعليق على «مقدمة المجموع» (ص127): هذا يحتاج إلى دليل؛ لأن قراءة القرآن عبادة. والعبادة تحتاج إلى دليل.

وقد كان عندنا في دار الحديث في دماج يفتتحون الخطب عند اللقاءات والاجتماعات بقراءة بعض الطلاب، ثم رأى والدي رحمه الله أن تحري هذا لم يكن يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فليس عليه دليل، وخير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

فيترك هذا إلا في حالات نادرة، ولا يُقصد منها تحري استفتاح الخطبة بقراءة القرآن الكريم.

◆◇◆◇◆◇

ابتداء القراءة والوقف عليها

على القارئ أن يراعي أدب ابتداء القراءة والوقوف، وعليه أن يراعي الكلام المرتبط بعضه ببعض، ولا يتقيد بالأعشار والأجزاء والأحزاب، من أمثلة ذلك: ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ [ النِّسَاءِ: 24 ]، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ﴾ [ يوسف: 53 ]، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ﴾ [ النَّمْلُ: 56 ]، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾[ الْأحْزَابُ: 31 ]، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ﴾[ يس: 28 ]، وغير ذلك.

قال النووي: وَلِهَذَا المَعْنَى قال الْعُلَمَاءُ: قِرَاءَةُ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ بِكَمَالِهَا أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ بَعْضِ سُورَةٍ طَوِيلَةٍ بِقَدْرِ الْقَصِيرَةِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَخْفَى الْارْتِبَاطُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِي الهُذَيلِ التَّابِعِيِّ المَعْرُوفِ قال: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَقرَءُوا بَعْضَ الْآيَةِ، وَيَتْرُكُوا بَعْضَهَا. اهـ.

أثر عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِي الهُذَيلِ أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص96)، وغيره بسند صحيح.

◆◇◆◇◆◇